في الوقت الذي ندعو فيه جميعاً إلى التغيير تبرز المشاكل الجامعية باعتبارها مجالاً رئيسياً من المجالات التي تستحق منا اهتماماً وجهداً أساسيين في عملية المراجعة والإصلاح الكفيلة بجعلنا نبلغ المستوى الذي تفرضه علينا التحديات التي تتربص بنا. ويتعلق جانب مهم من مشاكل جامعاتنا بمناهج التدريس فيها ونظمها الداخلية وأوضاعها الخارجية، فقد سادت الجامعة -وأعني بالذات الكليات النظرية- مناهج الإملاء، إذ تحولت محاضرات الجامعة إلى دروس في الإملاء أو في المطالعة، بحيث يدخل الأستاذ بملفه يملي منه، ويدخل الطالب بكراسة محاضراته يملى عليه فيها، أو يدخل الأستاذ بالكتاب المقرر ويقرأ منه، ويدخل الطالب بنفس الكتاب ويقرأ عليه! والكل ضامن حسن السير والسلوك، فالأستاذ لا يجهد نفسه إلا في نقل مادة من كتب أخرى يجمع بينها ويؤلف، ويشرح ويختصر، ويتكرر ذلك كل عام دون تغيير أو تبديل. والطالب لا يجهد نفسه إلا في الأسابيع الأخيرة من كل عام، يحفظ المادة المنمقة المرتبة وهو سعيد بها، وينقلها إذا غاب ويحصل عليها من الَملازم، ثم يأتي السؤال مباشرة: الأول من الصفحة الأولى حتى الصفحة العاشرة، والثاني من العاشرة حتى العشرين، والثالث.. الخ. وبعد أداء الامتحان ينتهي كل شيء كما بدأ، ثم تتكرر العملية نفسها في السنة التالية حتى الرابعة بنفس الطريقة، ويخرج الطالب بعدها من الجامعة كما دخلها، ويكون قد كوّن ثروة تقل أو تكثر حسب صلاته الاجتماعية وقدرته على إيجاد الفرص للإعارات أو ترويج الكتب المقررة، ويعلو في المناصب الجامعية إلى أن يصير نجماً اجتماعياً تتخطفه المصالح الحكومية للوزارات حتى يستقر في قممها، ويكون بذلك قد وصل إلى نهاية الشوط! وبمنهج الإملاء هذا يصبح الطلبة نسخاً باهتة متكررة من الأستاذ، يكرر الطلبة ما كرره الأستاذ من قبل، وينقل الكل من المراجع نفسها، ويضيع التنوع الذي هو نتيجة حرية الفكر وأخذ المواقف، والتعبير عن الرأي الشخصي. والتدريس بالجامعة في الحقيقة حوار حر بين الطالب والأستاذ، ويبدو على أحسن ما يكون في ساعات المناقشة وأعمال السنة. قد يكون الأستاذ أكثر اطلاعاً وأطول ممارسة، ولكن الطالب قد يكون أيضاً أكثر وعياً وأشد التزاماً بالقضايا. والدراسات العليا عندنا ليست أفضل من الدراسات السابقة عليها، إذ تبدأ السنة الأولى كسنة عامة تتكرر فيها بعض المواد السابقة، ويُتبع فيها منهج الإملاء والكتب المقررة من جديد، ونحن أحوج ما نكون إلى مزيد من التخصص، مع أنه كان الأجدى جعلها سنة يقرأ فيها الطالب أمهات المراجع في دراسته، ويا حبذا لو كانت بلغة أجنبية، تلك المراجع التي سمع الطالب عنها، ولم يرها في سنواته الجامعية الأولى. وفي هذا العام، أو هذين العامين يكون استعداد للطالب لمرحلة البحث العلمي وما تتطلبه من إمكانيات في اللغات، وفي مناهج العلوم الإنسانية. فإذا اختار البحث اختاره له الأستاذ المشرف عليه، وهو لا يتعدى في الغالب دراسة شخصية ما، حياتها وآراؤها، أو مرحلة زمنية معينة تقتطع من التاريخ، ويرصد الطالب الوقائع ويرتب المادة، وكأن البحث هو مجرد تصوير للقديم ونقل له، ما دام الطالب لم يتعلم وسائل البحث العلمي التي تجعله يذهب إلى الموضوع ذاته ويكتشفه هو بنفسه، وهكذا تكون الماجستير استمراراً لليسانس، والدكتوراه استمراراً للماجستير، كمرحلة تؤدي تلقائياً إلى المرحلة التالية دون فرق إلا من اختلاف في الكم والسن. فإذا أُعير الأستاذ المشرف نُقل الإشراف إلى غيره، وهو لا يعلم عن الموضوع شيئاً، ويبدأ التخطيط من جديد، ويكون الطالب هو الضحية يغير ويبدأ حسب إعارات الأساتذة، وينتهي الأمر إلى المجاملة في المناقشة المعنية والتغاضي عن العلم، مجاملة بمجاملة، وخاطراً بخاطر. ------------------ أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة