ـ ـ ــ ـ ـــ د.أكمل عبد الحكيم ـ ـ ــ شهد الأسبوع الماضي اجتماع منظمة دولية، لا تعرف الغالبية منا الكثير عنها، على الرغم من أهميتها في حياتنا اليومية، وعظم وقع قراراتها وتوصياتها على صحتنا وصحة أطفالنا وأسرنا، هي مفوضية الدستور الغذائي (The Codex Alimentarius Commission). وقبل أن نستعرض نطاق عمل هذه المفوضية، ومدى نشاطاتها، وأهميتها على صحة الأفراد والمجتمع، يجب أن نتوقف قليلاً عند حقيقة أساسية، وهي أن أفراد المجتمعات البشرية الحديثة، يعيشون حالياً تحت حماية ورقابة مجموعة من القوانين، والتشريعات، الخاصة والمتخصصة في ما يتناولونه من غذاء، ومن طعام يومي، مثل تلك التي تضمن سلامة وأمن الغذاء، كخلوه من الطفيليات والجراثيم، أو من المبيدات الحشرية، والمواد الكيميائية الضارة، أو التي تضمن أن طعامهم قد حُضّر وجُهّز بطريقة مطابقة للمعتقدات الدينية، وأحياناً حتى حسب المقبول ثقافياً واجتماعياً. ولن يتسع المقام هنا لذكر وتعداد القوانين والتشريعات التي تتعلق بالطعام والغذاء، أو حتى المرور سريعاً على الجوانب المختلفة التي تحاول تغطيتها، وإنْ كان جزءاً كبيراً من هذه القوانين والتشريعات، موجوداً ومنصوصاً عليه فيما يعرف بتشريعات الغذاء (الدستور الغذائي)، والتي هي عبارة عن نتاج عمل وقرارات وتوصيات مفوضية الدستور الغذائي التابعة للأمم المتحدة، والتي تم إنشاؤها في بداية عقد الستينيات، بمشاركة منظمة الأغذية والزراعة «الفاو»، ومنظمة الصحة العالمية، وتضم حالياً في عضويتها 186 دولة من مختلف دول العالم. ومما لا شك فيه، أنه في خلال العقود الخمسة الأخيرة منذ إنشاء المفوضية، وصدور النسخة الأولى من الدستور الغذائي، شهدت القوانين والتشريعات المتعلقة بالغذاء تطورات كبيرة متتابعة على الصعيدين المحلي والدولي، ضمن الجهود الهادفة لمجابهة ومواجهة التحديات المتغيرة التي تتعلق بغذاء بني البشر. إحدى أهم تلك التحديات التي يسعى الاجتماع الأخير للمفوضية التعامل معها حالياً، هي ظاهرة ازدياد مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، وعلاقة هذه القضية بفرط استخدام هذه الطائفة من العقاقير الطبية في إنتاج الغذاء. فمن الحقائق المثيرة التي تربط عالم الطب بعالم إنتاج الغذاء، هي كون أكثر من نصف الاستهلاك العالمي من المضادات الحيوية يستخدم في تربية الماشية والطيور الداجنة بأنواعها المختلفة، وأحيانا ما تزيد هذه النسبة على النصف بكثير. ففي الولايات المتحدة مثلاً، في الوقت الذي يستخدم فيه 3400 طن سنوياً من المضادات الحيوية في الأغراض الطبية، نجد أن قطاع تربية الماشية ومزارع الدواجن يستهلك 8900 طن سنوياً، كما أظهر تقرير نشر في 2001 أن 70 بالمئة من كمية المضادات الحيوية التي تصنع وتنتج في الولايات المتحدة، تستخدم لغرض تسمين الحيوانات والطيور. ولا يقتصر استخدام المضادات الحيوية في تربية الحيوانات والطيور على علاج الأمراض المعدية التي قد تنتشر بين حيوانات المزارع، أو حتى الوقاية منها، بل أيضاً لزيادة أوزانها، ورفع قيمتها السوقية، وتحقيق أعلى عائد مالي. فالمعروف أن إضافة المضادات الحيوية للعلف أو مياه الشرب، بجرعات منخفضة وعلى فترات طويلة، يُسرّع من نمو الحيوانات والطيور، ويزيد من أوزانها بشكل أكبر، مقارنة بالحيوانات التي لا تُضاف لغذائها مضادات حيوية، نتيجة ما تسببه هذه العقاقير من تغيرات في فسيولوجيا الجهاز الهضمي، بالإضافة إلى تثبيطها لبعض الأمراض. هذا الإفراط، وإساءة استخدام المضادات الحيوية في قطاع إنتاج الغذاء، ينظر إليه حالياً على أنه سبب رئيس خلف انتشار ظاهرة زيادة مقاومة الجراثيم للمضادات الحيوية، والتي شهدت خلال الأعوام القليلة الماضية تزايداً متسارع الوتيرة، بدرجة أصبحت تثير قلق العلماء من تبعاتها الوخيمة. هذه التبعات تتجسد في حقيقة أن 700 ألف شخص يلقون حالياً حتفهم كل عام، نتيجة العدوى بالبكتيريا فائقة المقاومة للمضادات الحيوية، والمعروفة بالجراثيم السوبر (Superbugs). وحسب بعض الاستشرافات المستقبلية التي أجرتها معاهد بحثية متخصصة وإحصائيون واقتصاديون، يتوقع بحلول عام 2050 أن تفتك هذه الجراثيم السوبر بعشرة ملايين شخص سنوياً، أي بواقع وفاة كل ثلاث ثوانٍ. وبخلاف هذا الثمن الإنساني الفادح، يتوقع أيضاً لما أصبح يعرف بعصر ما بعد المضادات الحيوية أن يكلف الاقتصاد العالمي 100 تريليون دولار بحلول عام 2050، حسب بعض التقديرات. ومثلها مثل التحديات الأخرى التي واجهتها مفوضية الدستور الغذائي على مدار أكثر من نصف قرن، كمكافحة الأمراض المنقولة بالغذاء وبالماء، وسلامة وأمن المضافات الغذائية من المواد الحافظة والألوان ومكسبات الطعم والنكهة، والمستويات المسموح بها في الغذاء من المبيدات الحشرية، وغيرها من السموم الطبيعية كالزرنيخ، وبيانات المكونات الغذائية وقيمها على عبوات الأغذية، ستسعى المفوضية لمواجهة هذا التحدي الأخير المتجسد في مقاومة الجراثيم للمضادات الحيوية، في ظل فداحة الثمن الذي يتوقع لهذه الظاهرة أن تفرضه على أفراد الجنس البشري في غضون السنوات والعقود القليلة المقبلة.