بعدما تناقلت وكالات الأنباء العالمية خبر الاستفتاء الذي شهدته بريطانيا، والذي كانت نتيجته تأييد الخروج من الاتحاد الأوروبي بأكثرية ضئيلة، منذ ذلك اليوم، فإن المراقبين ما زالوا يحللون التأثيرات السلبية لهذا القرار على الاتحادات والمنظمات الإقليمية والدولية ليس فقط على مستوى أوروبا، بل حتى على مستوى الأقاليم الأخرى في العالم، حيث تبين فجأة أن هناك من العرب من أعجب بالقرار البريطاني، وبالتالي يريد الانفكاك من صيغ العمل الجماعي. فهل يمكن أن يكون الاستفتاء البريطاني هو البداية نحو ترجيح مسألة إعادة التفكير في الاتجاهات التكاملية والاندماجية الإقليمية؟! ومن المفارقات الغريبة أنه في حين أن الاستفتاء البريطاني يثير ضجيجاً لدى الإنسان الأوروبي، حيث إن تأثيراته السلبية تلامس حياته اليومية ومعيشته، فإن النظام الإقليمي العربي المتمثل في الجامعة العربية يشهد هذه الأيام مباشرةَ الأمين العام الجديد، أحمد أبوالغيط، لمهامه، لكن يكاد يحدث ذلك في غياب شبه تام لاهتمامات الرأي العام العربي وحتى إعلامه، ربما في مغزى سياسي يحمل دلالات (استفتاء صامت) على مدى أهمية هذه المنظمة «الغائبة» عما يحدث في الساحة السياسية العربية. ومع أن الكثير من المحللين يستبعدون حدوث أي محاولة عربية للخروج من الجامعة العربية أو كما يحلو للبعض تسميته بـ«البيت العربي»، إلا أن هذا لا يمنع من محاولة ممارسة أحد أساليب التفكير السياسي، وهو وضع الاحتمالات أو السيناريوهات لخروج أحد الأعضاء كي لا نتفاجأ بأي تطور لم يكن في الحسبان، بل إن تلك الاحتمالات عندما ندرسها على أرض الواقع، فإنها أقرب لأن تؤكد أن خيار الانفصال هو الأرجح على الأقل من الناحية المنهجية، حيث تعصف بالجامعة خلافات -وليس الاختلافات فقط- عميقة بين أعضائها حول مهددات الأمن القومي العربي (إيران تحديداً)، والحلول المطروحة لمواجهتها. والأمر نفسه تقريباً تواجهه التنظيمات الأصغر، مثل مجلس التعاون الخليجي، حتى أصابت العمل العربي المشترك، وأحياناً الخليجي بـ «الفشل السياسي». أضف إلى ذلك أن هناك من العرب من يعتقد أن قرارات الجامعة العربية وغيرها من التجمعات السياسية العربية، باتت أداة لخدمة سياسات بعض الدول الأعضاء. الفكرة هنا، أن الصياغات التاريخية للتجمعات السياسية والعسكرية التي لها بعد ثقافي مثل اللغة والتاريخ المشترك والدين، بدأت تتغير، فالدوافع المصلحية القائمة على الواقعية السياسية والمنطق العقلاني بدأت تسود عند الدول العربية وغيرها. ويدعم هذا الاتجاه أنه كثيراً ما نجد أن الوجود في العمل العربي الجماعي لم يسهم في تفضيل العرب لبعضهم مقابل دول الجوار التي تمثل تهديداً، ومنها إيران على سبيل المثال. لهذا فإن الحديث عن استبعاد خروج أي دولة عربية من الجامعة، يكون محل نقاش وجدل، خاصة أن التكتلات العربية تعاني ضعفاً بنيوياً لأنها لا ترتبط باتفاقيات ومعاهدات تجعل أي محاولة للانفصال صعبة أو أنها تحتاج إلى إجراءات ربما تتسبب في خسارة بعض الأعضاء. في علم السياسة هناك عدوى تنتقل بين الدول أو ما يعرف بالمحاكاة، وهي إما أن تكون عدوى إيجابية، وبالتالي تحاول الاستفادة من تجربة الآخرين كي تنجح التجربة الجديدة أو تكون محاكاة سلبية. وبما أن العرب لم يستطيعوا أن يقلدوا الأوروبيين إلا في الأمنيات والآمال في تجربتهم التي كانت نموذجاً للعمل التعاوني، فإن مسألة التأثر بالعدوى السلبية أمر وارد في هذه الحالة. اعتدنا من المواقف العربية أن لا تكون صريحة أو رسمية جازمة، وإنما عادة ما تكون هناك تلميحات تعطي إشارات على عدم الرغبة في استمرارية العمل الجماعي والتكاسل عن التفاعل مع القرارات العربية أو إطلاق بعض العبارات مثل «الحياد الإيجابي»، أو لأن دستور الدولة المتمنعة لا يسمح لها بالمشاركة في حرب أو اتخاذ قرار معين، وبالتالي فإن «استقالة» العضو العربي من هذه المنظمات لا يخرج عن هذه الصيغة، وهو ما يمكن وصفه بالانفصال الهادئ، بل إن وسائل التواصل الاجتماعي وفرت مساحة للتعبير أمام الرسمين وغيرهم ممن يلوحون بالانفصال والخروج من المنظومة العربية، ما يمثل مؤشرات ولو أتت على استحياء. هناك أجيال عربية لا تستطيع أن تنسى أن نشأة المنظمات العربية الإقليمية كانت في جانب منها استجابة لتطلعات الشعوب العربية، مثل الجامعة العربية، وبعضها جاء كنتيجة أو كرد على تهديدات أمنية إقليمية، كما هو الشأن في حالة مجلس التعاون الخليجي. لكن الموضوعية السياسية اليوم تطرح تساؤلات بشأن تلك التحالفات وقدرتها على الاستمرارية بالأساليب ذاتها وآليات العمل الحالية!