العلاقة وثيقة، بل شرطية، بين أوضاع الدول والمجتمعات وحالة العقل فيها. وإذا كانت هذه العلاقة ثابتة منذ مطلع العصر الحديث، وواضحة في تجربة انتقال أوروبا إليه، فهي أقوى حالياً بسبب التداعيات المستمرة لثورة الاتصالات والمعرفة. لم تتقدم دولة في هذا العصر إلا حين أشرق نور العقل فيها. ولذلك أُطلق على المرحلة التي شهدت أهم تطور في تاريخ الفكر الأوروبي في القرن الثامن عشر، عصر التنوير. وقد حاول بعض المثقفين العرب تنوير بلادهم وشعوبهم منذ بداية احتكاكها بالغرب في القرن التاسع عشر، لكن الإخفاق ظل ملازماً لهذه المحاولات، لأسباب داخلية وخارجية معاً. لم تعرف المنطقة العربية عصراً متنوراً بالمعنى الأوروبي، وإنْ عرفت بعض النور في أوساط النخب الثقافية. لذلك ظلت الحداثة قشرة على سطح مجتمعاتها، وبقي السطح عازلاً أبقى العرب في الأغلب الأعم بعيدين عن التنوير العقلي. وفي مسار الدول والمجتمعات، كما يُعلَّمنا التاريخ، اتجاهان لا ثالث لهما. أحدهما إلى الأمام، والثاني إلى الوراء. وحين يستعصى تحقيق التقدم، لا بد أن يزداد التخلف. لذلك لم تستطع البلاد العربية التي شهدت إرهاصات تنوير في القرن التاسع عشر أن تحافظ عليها. فقد تراجعت العقلانية والحداثة اللتان ارتبطتا بتلك الإرهاصات أمام زحف التخلف الفكري والجمود الديني. ولم تقدر إرهاصات التنوير على مقاومة القوى صاحبة المصلحة في إطفاء نور العقل، بخلاف ما حدث في عصر التنوير الأوروبي. ورغم أن مهمة التنويريين الأوروبيين كانت أصعب لأنهم واجهوا رجال دين أضفوا على أنفسهم قداسة ترسخت على مدى قرون، فقد أخفق التنويريون العرب في أداء مهمة بدت أيسر من هذه الزاوية. فلم تعرف بلادنا العربية قداسة لرجل الدين. ومع ذلك نجحت منظمات أصولية في مقاومة التنوير وغلق الطريق أمامه. لا تضم هذه المنظمات من علماء الدين وأشباههم إلا أقل القليل والأقل معرفة بصحيح الدين. ففي الأغلب الأعم لا تعرف هذه المنظمات عن الدين إلا قشوراً، لكن بعضها احترف تحويله إلى وسيلة لتحقيق أهداف تناقض جوهره. وبينما ظل التنويريون العرب معلقين على السطح بعيداً عن الأغلبية الساحقة من الناس، نجح الأصوليون في النفاذ إلى أعماق المجتمعات العربية، معتمدين مزيجاً من الشعارات السياسية مثل «الإسلام هو الحل»، والأنشطة الاجتماعية في البلاد التي يزداد فيها الفقر خاصة. وفيما عجز التنويريون العرب عن الاستفادة من تجارب أمثالهم في العالم، نجح الأصوليون في استخدام آليات حديثة، في مقدمتها العمل الاجتماعي القاعدي الذي تقوم به منظمات المجتمع المدني في العالم. وبينما خفتت أصوات العقل والعلم والمعرفة، اشتد تأثير الخطاب الأصولي، ووصل إلى قطاعات واسعة في المجتمعات العربية، لسهولته ويسره واختزاله أزمات هذه المجتمعات في الافتقار لـ «نظام أخلاقي» زعم من روجوه أنهم يستطيعون إقامته انطلاقاً من الإسلام. ولم يكن لمثل هذا التبسيط المخل أن يلقى استجابة إلا في بيئة اجتماعية وسياسية وثقافية شديدة الهشاشة، لأسباب منها إخفاق رسالة التنوير التي لم تجد من ينقلها من سطح المجتمع إلى أعماقه. وهكذا تُرك الجمهور في كثير من البلاد العربية لقمة سائغة لتيارات أصولية، وجدت أرضاً ممهدة أمامها، فتمددت فيها وأمعنت في تبسيط قضايا، صارت أكثر تعقيداً في هذا العصر منها في أي وقت مضى. لذا كان سهلاً أن تتقدم هذه التيارات الصفوف، وأن يقفز الأكثر تنظيماً فيها («الإخوان» وأتباعهم) على الانتفاضات التي حدثت في نهاية 2010 وبداية 2011. ورغم أن تعجلهم الصعود لفرض هيمنة كاملة كشفهم أمام قطاعات اجتماعية واسعة، وأسقطهم بأسرع مما توقع أحد، لم تُستثمر هذه الفرصة بعد لنشر نور العقل في البلاد التي سقطوا فيها. وسرعان ما نشطت قوى أصولية أخرى اعتماداً على المزاج المحافظ للقوى الاجتماعية التقليدية لتكريس حالة الظلام العقلي في المجتمع، فيما ظل التنويريون معزولين على سطحه وغير قادرين على النفاذ إلى أعماقه. ورغم وجود أخطار متعددة تواجه العرب اليوم، يظل ضعف القدرة على تنوير العقل هو الخطر الأكبر، فضلاً عن كونه مصدراً لكثير من تلك الأخطار.