تتوالى الانكسارات والمؤامرات والتدمير في سوريا.. وأما أهل الوطن فيدورون على أنفسهم ووراء تجار الحروب المجرمين، يستجدونهم بقية من وطنهم، وقد غدا الأمر مُهدداً بإغراق البلد بكل أنواع السلاح وبشكل وحشي مرعب، فالإنسان مهدد بقذيفة أو بانفجار، ناهيك عن الاحتمالات المفتوحة لخطفه واحتجازه في سجن، بحيث يتبين عليه أن يتخذ درجات الحذر والحيطة، وهو في هذا وذاك يسمع سلسلة مفتوحة من وعود جديدة للقاء بين الأطراف المعنية، بهدف عقد مؤتمر جديد أو مشاورات مستجدة! مع إشارة تكاد تكون دائمة ويُعلن فيها أن نتائج «إيجابية» لذلك المؤتمر ولتلك المشاورات غير مضمونة بعد، ما يدعو المستمع والمتابع هذين لمزيد من عدم الاطمئنان إلى كل ما يتابع وما يُسمع! أما الظاهرة التي تستفز السوري فهي تلك التي تقترن بأخبار الزائرين لسوريا والعابرين فيها، دون تدقيق ودون توقف بحيث يصبح السؤال طبيعياً، فيما إذا كانت سوريا قد أصبحت المسرح الذي يُمارس فيه كل أنواع التراجيديات والهزليات وما بينهما. فسوريا تحولت أو حُولت إلى مسرح من الصراع الذي ربما يتضمن كل أو معظم أنواع التدخل في الوطن الآخذ في النزيف، فروسيا وأميركا وإيران.. إلخ، نسمع بها الآن في سوريا أكثر مما نسمع بغيرها! لماذا ذلك، خصوصاً أن تلك الأطراف لا تنسى مصالحها العالقة في تاريخ سوريا الحديث، ولا تنسى أن هذا البلد هو بمثابة «نجمة الصبح» بالنسبة إلى العالم العربي. والأمر أصبح كما بدا لكثيرين واضحاً حيث تتم عملية جديدة من تطور المصالح الاستراتيجية الخاصة بالغرب والشرق، وتحديداً في سياق تعاظم هيمنة النظام العولمي عالمياً، وتنامي الشعور والوعي بضرورات التغيير الوطني الديموقراطي في العالم العربي، وفق فواعل القرن الحادي والعشرين واحتياجات هذا العالم على نحو يلبي احتياجات أبنائه. وقد يقود التحليل التاريخي والسياسي إلى وضع الافتراض بأن الغرب الماهر بحذق وحزم في الاستيلاء على ما ليس له، على الأقل (هكذا يفكر دهاقنته) لأنه يرى أن ما يريد أن يضع يده عليه في بلدان التخلف والاستبداد والتهميش، هو بمثابة حفاظ عليه، وتجنيبه الانتهاك والسرقات. ولما كان تاريخ أولئك الدهاقنة الغربيين حافلاً بالصراعات معه -وهو القوة الاستعمارية الناشئة النهمة- فقد تعين على هؤلاء أنفسهم أن يصنعوا أو يكتشفوا الطرق المناسبة لتحويل خيرات الشرق وثماره وإبداعاته من أيدي أصحابها إلى أيديهم. هكذا بمثل هذا الطريق يزرع نبتة الأيديولوجيا التكفيرية بمستلزماتها وباحتياجاتهم هم أنفسهم الذين كانوا وربما ما يزالون دهاقنة «الاستعمار الجديد»، والنظام العالمي الجديد الذي أكسب مصطلح «العولمة» بما تعنيه لدى مثقفيها وخصومهم المشتركين من أمور أولية تحت مصطلح «السوق المطلقة». إن نشوء وانتشار أيديولوجيا الظلامية والاستفرادية والتكفيرية التوحشية في الحياة الذهنية العربية والشرقية الراهنة عموماً، يقودنا إلى محاولة إعادة مسار بعض النظم العربية إلى سياقاتها، التي اتسمت بعلامات فارقة تتكثف في اللاءات التالية، وفيما يقترب منها أو يشير إليها: لا للحرية، ولا للديموقراطية، ولا للدولة المدنية، ولا لحقوق الإنسان، وإنما لنمط من نظام الحكم، الذي يأخذ ما يأخذ مما تعنيه تلك اللاءات، ويعيد تأهيلها في إطار قانون الاستبداد الرباعي، المنطلق من الاستئثار بالثروة الوطنية أولاً وبالسلطة ثانياً، وبالمرجعية المجتمعية لهذا القانون والمتمثلة في أن الحزب الوحيد والحاكم تتم قيادته من قبل قائده وقائد المجتمع ثالثاً، ومن الاستئثار بتكوين وتوجيه الإعلام العمومي والخصوصي رابعاً. د. طيب تيزيني* *أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق