ما يجمع الضربة الإرهابية العنيفة التي تعرضت لها تركيا هذا الأسبوع وتأثيرات الاستفتاء البريطاني الحادة في أوربا، هو عامل الخوف الذي أصبح يسيطر على المجتمعات الإنسانية، مع اختلاف أسبابه وخلفياته. الخوف من الإرهاب الذي غدا شاملا، وقد شل حركة السياحة في الكثير من البلدان، والخوف من الهجرة وذوبان الهوية وضياع السيادة الذي تسبب في الهزة العنيفة التي تعرض لها الاتحاد الأوروبي الذي لا تزال دوله الرئيسة تعاني من مخلفات أزمة اقتصادية ومالية طاحنة.الخوف نفسه هو الذي يفسر صعود تيارات التطرّف والكراهية العنصرية في أيامنا هذه، والذي غدا خطرا حقيقيا في الولايات المتحدة نتيجة لاحتمال فوز المرشح الجمهوري ترامب في انتخابات أواخر السنة الجارية. هل أصبحت الديمقراطية الليبرالية والنظام الاقتصادي الرأسمالي القائم على الثورة الصناعية والتقنية عاجزين عن توليد الأمن والسكينة للمجتمعات الحديثة التي توهمت أنها تركت مآسي الحروب والفتنة والمجاعة والكوارث الطبيعية للبلدان التي لا تزال تعيش عنفوان التحول التاريخي حسب عبارة الكاتب الأميركي فوكوياما؟ المعروف أن العقل السياسي الحديث تأسس على فكرة الدولة السيادية المحتكرة للعنف بشرعيتها المستمدة من نقل الجمهور من حالة الفتنة الكلية وخطر الموت العنيف إلى حالة التعاقد التوافقي المنظم قانونيا بما يسمح به من تحقيق سلم أهلي دائم. وفق هذه الفكرة التي صاغها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، نشأ اعتقاد واسع بأن المجتمعات الديمقراطية لا تعرف العنف داخليا ولا يمكن أن تتحارب في ما بينها، وقد تعزز هذا الانطباع بعد هزيمة النازية في الأربعينيات والشيوعية في نهاية القرن الماضي، في الوقت الذي اعتبر أن اقتصاد السوق الحر هو النظام الطبيعي الذي يتناسب مع حقوق الإنسان وحريته ومع طبيعة الاكتشافات والتحولات العلمية والتقنية ومن شأنه أن يحمي العالم من عصور الرعب والخوف. ما لم يتم توقعه هو التحولات النوعية التي حدثت في قلب المنظومة السياسية والاقتصادية للمجتمعات الحديثة، بانفصام مزدوج بين الدولة ككيان حاكم وحركية المجتمع الذي تجسده وبين دائرة الاقتصاد الحقيقي والديناميكية المالية التي خرجت عن نطاق التحكم ولم تعد تعبر عن الواقع الاقتصادي الفعلي. إن هذه الظاهرة المزدوجة هي التي ولدت أوجه الهشاشة التي تعاني منها المجتمعات الحديثة بما ينعكس على وعيها بهويتها وإحساسها المتأزم بمستقبلها، وإذا كانت ظاهرة الإرهاب لها خلفياتها الخارجية فإنها في بعض جوانبها من مظاهر ومخلفات هذه الأزمة الاجتماعية العميقة إذا ركزنا النظر على طبيعتها، أو من حيث العلاقة بمشاكل الاندماج لدى الأقليات الدينية والقومية في مجتمعات أصبحت عاجزة عن إدارة بنيتها الاختلافية. لقد لاحظ الفيلسوف الإيطالي «جورجيو أغامبن» أن الديمقراطيات الغربية تعيش اليوم مسارا معاكسا للديمقراطية الأولى (اليونانية) التي قامت على تسييس المواطنة بنقل الهوية الجماعية من مبدأ التمايز الاجتماعي إلى مبدأ المشاركة السياسية، في حين أن ما نعيشه راهنا هو نزع السمة السياسية عن معيار المواطنة، باعتبار أن المواطن لم يعد له أي دور فعلي في القرارات الحاسمة التي تصوغ مصيره وأصبح الهامش المتاح له محصوراً في مناسبات انتخابية موسمية شكلية لا تغير من الواقع شيئا. وقد اعتبر اغامبن أن هذا التطور يتلاءم مع الانتقال من المجال العمومي كإطار تداولي نقاشي مفتوح إلى مجال الرقابة والمتابعة الذي أصبح هو ميدان السياسة بصفتها إدارة دائمة للخوف لا تأمينا نهائيا منه. المفارقة البادية للعيان هي أن عولمة السوق والاقتصاد لم تفض إلى تحطيم الجدران بين أركان العالم، بل أدت إلى مضاعفة الحواجز والجدران داخل نسيج البلدان الرأسمالية الكبرى نفسها، حيث إن مختلف الهويات الخصوصية في أشكالها القومية والدينية والجنسية برزت في أنماط من التركيبة القبلية عصية على التجاوز في بناءات اندماجية جامعة. كان عالم النفس الشهير «جاك لاكان» يقول إن السوق المشتركة ستؤدي إلى أنماط غير مسبوقة من العنصرية، وما نلمسه اليوم هو تحقق هذا السيناريو المخيف الذي يفسر عجز النظم الديمقراطية والليبرالية عن احتواء التصدع الاجتماعي المتزايد. د. السيد ولد آباه* *أكاديمي موريتاني