مثل توابع الزلازل الطبيعية التي تكون أحياناً أكثر وأشد تدميراً من الزلزال نفسه، كذلك أصبحت توابع الزلزال السياسي البريطاني بعد أن صوت الغالبية البسيطة من المواطنين لمصلحة خروج المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد الأوروبي.. المتابعون، ومنذ إعلان نتائج الاستفتاء، وجدوا أنفسهم أمام مسرح السياسة البريطانية وقد أصبح مسرح اللامعقول في الأدب المسرحي. كانت الحملات الانتخابية في الأسابيع الأخيرة السابقة ليوم الاستفتاء من أنشط الإعلانات الدعائية في تاريخ الحملات الانتخابية التي شهدتها البلاد، ومنذ البداية كان واضحاً أمام الناس أن المملكة المتحدة ستواجه انقساماً وطنياً سيتعدى حدود الاستفتاء حول عضويتها في الاتحاد الأوروبي، ذلك الاستفتاء الذي دعا إليه رئيس الحكومة المحافظ ديفيد كاميرون وبعد أن وقع الفأس في الرأس، ورأى المواطنون بداية نتائج الاستفتاء وأدركوا إلى أي منزلق خطر ستنحدر بلادهم، تصايح الناس من كل اتجاه سياسي اجتماعي صياحاً تردد صداه في كل أرجاء المملكة. أولى توابع الزلزال ضربت المؤسسة الحزبية العتيقة التي تنسب الديموقراطية في معظم البلاد (ديمقراطية وست منستر)، ففي حزب المحافظين ظهر وسيطر على خشبة المسرح التيار الذي يوصف بيمين اليمين المحافظ بقيادة عمدة لندن السابق بوريس جونسون الذي تزعم ومول ونشط في الحملة الانتخابية الداعية لخروج المملكة من الاتحاد الأوروبي، ورغم أن جونسون لم يخف رغبته القديمة في خلافة كاميرون على رأس الحكومة، فإن ثمة تكتلاً قوياً داخل مؤسسة حزب المحافظين أجهض اختياره لرئاسة الوزارة. وفي الجانب الآخر فإن توابع الزلزال قد ضربت حزب اليسار العمالي، ففي صباح الأحد الماضي أعلن زعيم الحزب جريمي كوربين فصل أحد أبرز قادة الحزب وعضو فريقه الذي أوصله إلى زعامة العماليين، النائب هيلاري بن الذي واجهه مباشرة بعد إعلان نتائج الاستفتاء بأنه قد فقد الثقة في قيادته. أعقبت ذلك استقالة تسعة من أعضاء الحزب من مناصبهم القيادة تضامناً واتفاقاً مع زميلهم المعزول. وإذا كانت توابع الزلزال السياسي لم تقتصر على أحوال ووحدة الحزبين الكبيرين فإنها في الواقع قد امتدت للأقاليم التي تضمها المملكة المتحدة، ففي اسكتلندا جددت زعيمة الحزب الوطني القومي دعوتها لإجراء استفتاء في بلادها حول تقرير المصير، بعد استفتاء خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وقالت للإذاعة البريطانية إن المملكة المتحدة التي صوت أهلها لمصلحة بقاء بلادهم ضمنها لم يعد لها وجود اليوم. وكذلك الحال مع أيرلندا (الشمالية والكاثوليكية)، فقد قال الزعيم الأيرلندي وزعيم حزب الشين فين إنه سيدعو مجلس الوزراء لاجتماع للنظر فيما بعد خروج المملكة من الاتحاد الأوروبي. وواقع الأمر أن الأقاليم الثلاثة (أيرلندا -اسكتلندا -ويلز) صوت وبكثافة لبقاء المملكة في الاتحاد الأوروبي بعكس الجزيرة البريطانية التي رجحت كفة تيار الخروج من الاتحاد، لأنه -وكما يقول السياسيون في هذه الأقاليم- فإن مصالحهم تتحقق بالاتحاد وليس العزلة. وتوابع الزلزال لم تكن قاصرة على المملكة، بل امتدت وستمتد مستقبلاً لبلاد أوروبية صغيرة تشعر بوطأة السيطرة الألمانية الفرنسية على الاتحاد الأوروبي، فمعركة الاستفتاء لم تكن نتيجة معارضة شعبية بريطانية وليدة الأمس، ولكنها نتيجة تراكمات سياسية واختلاف مصالح اقتصادية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، فدخول المملكة المتحدة نفسها لعضوية الاتحاد وتوقيعها على اتفاق لشبونة استغرق زمناً طويلاً، وقد دخلت الاتحاد وهي تحمل على ظهرها انقسام الرأي العام فيها بين اتجاه أوروبي يرى مستقبلاً أفضل لبلاده في أوروبا واتجاه أميركي يرى المستقبل المضمون مع الحليف الأميركي. والرأي العام البريطاني اليوم منقسم والمقترحات والعرائض تترا، ومنها دعوة حملتها عريضة وجهت لمجلس تطالبها بتوجيه دعوة للحكومة من أجل إعادة الاستفتاء، وهي العريضة التي وقع عليها (حتى كتابة هذا المقال) ثلاثة ملايين مواطن.. وتوابع الزلزال ستعلو أصواتها ولا أحد يدري إلى ماذا سينتهي الأمر، لكن المؤكد أن توابع الزلزال قد تجاوزت آثارها بورصة لندن، وعبرت المحيطات البعيدة وضربت أسواقاً مالية غير الأسواق البريطانية، وأن أزمة مالية قادمة وكساداً اقتصادياً سيمتد، كما تنبأ كاميرون قبل الاستفتاء، إذا كانت نتيجته خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي لسنوات قادمة، وإذا كانت هناك محاولات بريطانية لتأجيل بداية المفاوضات بين المملكة والاتحاد لفترة زمنية، فإن هنالك دعوة معاكسة في الجانب الأوروبي للإسراع بإنهاء العملية الجراحية المؤلمة. وآثار توابع الزلزال السياسي البريطاني ستلازم الجانبين لفترة قد تطول ولا تقصر.