هناك من يرى أن «التصويت البريطاني ضد الاتحاد الأوروبي كان بمثابة ثورة الأغنياء ضد الفقراء والأقاليم ضد المدن الميتروبوليتانية والخاسرين من العولمة ضد الصفوة»، ولعل القارئ سمع صيغة ما من هذا التحليل لنتيجة التصويت البريطاني للخروج من التكتل الأوروبي، وهو شعار له إيقاع جيد، لكن قبل أن يصبح من البديهيات أرجو أن تتذكروا أنه ليس صحيحاً تماماً مثل كثير من الحقائق التي تم تسويقها للجمهور في حملة الاستفتاء هذه. صحيح أن إحصاءات التصويت تخبرنا بالفعل أن المؤيدين لمغادرة التكتل كانوا إلى حد كبير من الأشخاص الأفقر والأقل تعليماً، لكن الإحصاءات تبين أيضاً أن الدعم «للبقاء» كان أكبر في المدن وكان مرتفعاً بشكل خاص في المناطق التي حول الجامعات، لكن الإحصاءات لا تخبرنا كل شيء. إنها لا تخبرنا، على سبيل المثال، أن البناء الفكري والمالي لحملة الخروج من بريطانيا في الواقع موّله أعضاء الصفوة في المدن الميتروبوليتانية، والإحصاءات لا تخبرنا بمدى اختلاف وجهات النظر لهؤلاء الزعماء عن الناخبين نجحوا في استقطابهم أو مدى الاختلاف فيما بين هؤلاء الزعماء. ولنبدأ بـ«بوريس جونسون» و«مايكل جوف»، وهما من «المحافظين» البارزين الداعمين لخروج بريطانيا من التكتل، وكلاهما من كُتاب مقالات الرأي السياسية. و«جونسون» هو رئيس بلدية لندن السابق ومعروف بتأييده لأصحاب الأعمال ومن مؤيدي الهجرة، وهو يحصل على مقابل مالي ليكتب عموداً أسبوعياً لصحيفة «ديلي تليجراف» المؤيدة لخروج بريطانيا من التكتل الأوروبي، و«جوف» صحفي سابق من صحيفة «تايمز». وكاتبة هذه السطور لا تعترض على انتقالهم من الصحف إلى السياسة، لكنها تؤكد فحسب أنه ليس من الدقيق وصفهم بالفقراء، أو من سكان الأقاليم، أو من مناهضي المؤسسات الحاكمة، و«نايجل فاراج» زعيم «حزب استقلال المملكة المتحدة» هو وسيط سلع سابق لم يكن يتضور جوعاً فيما يبدو أيضاً. ورؤساء تحرير الصحف وأصحاب الأملاك الذين أيدوا بصوت مرتفع حملة الخروج المناهضة للصفوة كانوا حتى من طبقة أيسر حالاً من تلك الصفوة. وعشية يوم التصويت نشرت صحيفة «ديلي ميل» هذا العنوان: «أكاذيب وصفوة جشعة، أم مستقبل عظيم خارج أوروبا منهارة تحتضر: فإذا كنت تؤمن ببريطانيا صوت للخروج». وكسب بول داكر رئيس تحرير صحيفة ديلي ميل على 2.4 مليون جنيه (3.2 مليون دولار) عام 2014. وثروة مالك الصحيفة جوناثان هارمزوورث تبلغ 1.21 مليار دولار وفقاً لصحيفة فوربس، وهو مبلغ لا يجعله ضحية لحرية التجارة العالمية. وعلى النقيض فإن الليبراليين والصحفيين ورجال الأعمال من أنصار الأسواق الحرة الذين عارضوا الاتحاد الأوروبي وظلوا يعارضونه لسنوات ليسوا منافقين. ولطالما جادل الاقتصادي «باتريك مينفورد» أن بريطانيا يجب أن تلغي من جانب واحد كل الصفقات التجارية، وتتقبل الخسائر في الصناعة وتلغي لوائح الاتحاد الأوروبي على حقوق العمال ونظام الإعانات الاجتماعية. وكتب مجموعة من المستثمرين في لندن خطاباً يعبرون فيه عن أن «نهج الاتحاد الأوروبي في اللوائح التنظيمية يشكل حالياً تهديداً حقيقياً لصناعة خدماتنا المالية». وهناك آخرون مرتابون في الاتحاد الأوروبي، لكنهم مخلصون، ويرون في التكتل الأوروبي خسارة كبيرة للسيادة وهم يحنون إلى إنجلترا مختلفة أكثر إنجليزية، ولم يبد على أحد منهم أنه سيئ التغذية. وها هنا تكمن المشكلة، فقد صورت الصفوة في حملة «الخروج» بريطانيا على أنها ملاذ آمن ومنطقة قليلة القيود التنظيمية أو ملاذ رعوي رومانسي ومركز أعمال كوزموبوليتاني مثل دبي في منطقة شمال الأطلسي، لكن الصحف كررت القصص المروعة عن الهجرة. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»