لم يعد هناك شك في أن إيران باتت الثابت في سياسة إدارة باراك أوباما، على رغم تناقضاتهما وما مرّت به علاقتهما من مواجهات وتحدّيات، أما الالتزامات الأميركية تجاه دول الخليج، الحليفة الدائمة، فصارت من المتحوّلات. خلال عهد أوباما أجرت واشنطن ما يشبه غسيل دماغ ذاتي أدى عملياً إلى مسح كل المآخذ على نظام طهران، فطبيعته ومرتكزاته وممارساته داخلياً وخارجياً لم تعد معايير لتقويمه، بل إن المعيار الوحيد هو ما لديه من قوة عسكرية وما استطاعه من تخريب وانقسامات داخل بلدان محيطه العربي. وخلال عامين من التفاوض على الاتفاق النووي، ثم طوال الشهور العشرة التي تلت توقيعه، كان ولا يزال هناك حرص أميركي على عدم تعريض «إنجازات» إيران لأي مساءلة، ما شجّعها أخيراً على مضاعفة ظهورها في الواجهة في العراق وسوريا ولبنان، وعلى تطوير دورها في أفغانستان. ليست في الأجندة الأميركية الحالية أي مطالبة علنية بتغيير سلوك النظام الإيراني، وفقاً لخطاب تردّد في واشنطن على مدى ثلاثة عقود على الأقل وكان في بعض الأحيان يتبنّى تغيير النظام نفسه، ولا وفقاً لتطلعات عربية حدّها الأقصى وقف التدخلات الإيرانية، ولعل ما كرّسه أوباما هو العكس بتكييف سياسته لتتلاءم مع قبول إيران كما هي والتعايش مع تغوّلها، وحتى الاعتراف غير المعلن بمكاسبها على حساب المصالح العربية، إلى حدّ توقّعه أن يعترف العرب بالأمر الواقع الذي فرضته إيران. فهذا هو «التوازن» الإقليمي، كما تراه واشنطن، وهذا هو جوهر الدعوة إلى «تقاسم» عربي- إيراني للنفوذ في المنطقة العربية، سواء حيث يملك أتباعها «أرجحية» ديموغرافية ولو محدودة (العراق)، أو حيث لا يملكونها (سوريا ولبنان). يُضاف إلى ذلك أن واشنطن ترمي إلى معاودة استقطاب إيران، آخذة في الاعتبار أن الأخيرة أقامت ما يشبه محورَين استقطابيَين مع روسيا والصين فيما كانت الدولتان تتموضعان لمواجهة الولايات المتحدة وإضعاف قطبيتها الوحيدة. ولذلك يبدو أوباما كمن أجرى مراجعة لمجمل السياسة الأميركية تجاه «الجمهورية الإسلامية» منذ نشوئها، واستخدم منظارَي موسكو وبكين ليستكشف «المقوّمات» الإيرانية، فانتهى مستخلصاً أنه إزاء «دولة عظمى» إقليمية تستحق معاملة خاصة حتى لو تطلّب الأمر سكوتاً على انتهاكاتها ومخالفاتها. وقد قاده هذا التقويم، مثلاً، إلى التغاضي عن مشاركة قاسم سليماني ومليشياته العراقية «شريكاً» في معركة الفلّوجة على رغم مخاطر تأجيج الصراع الطائفي، وإلى اعتماد توازن واضح الاختلال بين وجود إيران ومليشياتها على الأرض السورية وبين «الدعم» الذي يقدمه بعض الدول الخليجية لفصائل المعارضة. وحتى في اليمن كان نهج «المجاملة» الذي اتّبعته واشنطن حيال النفوذ الإيراني أشبه بحافز للحوثيين كي ينقلبوا على الحكومة الشرعية ويجتاحوا البلد ويقيموا بنية عسكرية لتشكيل خطر مباشر على السعودية. وما دامت الولايات المتحدة توظّف حالياً تنظيم «داعش» لتغطية قيادتها وإدارتها «الحرب على الإرهاب»، فإنها تمتنع على نحو صارم عن أي إثارة لدور إيران في إدامة أنشطة تنظيم «القاعدة» وتسليحه وتقديم تسهيلات لوجستية إليه، أو لدورها في نشأة «داعش» في العراق ثم توجيهه إلى سوريا لاختراق مناطق المعارضة قبل أن يصبح مشاعاً مفتوحاً لأجهزة استخبارية من كل حدب وصوب. وهناك في واشنطن من يقول إن أميركا ليست متعامية وإنما هي تحتفظ بملفاتها عن الإرهاب وغيره لتستخدمها لاحقاً لفرض شروطها حين تبدأ عملية «التطبيع» مع إيران. أي أنها تعتبر كل الدم والدمار في سوريا والعراق وغيرهما مجرد أوراق مساومة بينها وبين طهران، في طريقهما إلى مساومتهما الكبرى التي لن يكون أوباما في البيت الأبيض ليديرها، لكن سلوكه التنازلي وضع محدّدات لمن سيخلفه. في مختلف الأحوال، وطالما أن «الحرب على الإرهاب» والأزمات العربية ستستمرّ في تشكيل «مصلحة» أميركية، فإن أي رئيس أميركي جديد سيواصل نهج الأسلاف في اعتبار أي نزاع إقليمي أداة وفرصة للاستغلال، وبالتالي فلا داعي لإخماده. ولاشك أن هذا سيسري على الصراع العربي مع إيران، وخصوصاً أن المرحلة المقبلة ستشهد تنافساً أميركياً- روسياً على استقطاب إيران، وستكون البداية في تسويات -الأمر الواقع للأزمات الساخنة التي ساهمت إيران في إشعالها (العراق وسوريا -بالإضافة إلى لبنان؟)، وربما تميل الدولتان الكُبريان إلى وضعها في سلة واحدة، وإذا أرادتا إرضاء إيران في هذه التسويات فلابدّ لهما من اعتبار جملة مبادئ (عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، واحترام السيادة، وحسن الجوار وسيادة القانون الدولي) ساقطة نهائياً.