جاءتني ردود متعددة عن مقالتنا عن جامعة القرويين الأسبوع الماضي، لما تحمله هذه «القديسة المدللة» من تاريخ ودور في تكوين العلماء ونشر نور الفهم والتجديد عبر القرون ليس في المغرب فقط، وإنما في العالم بأسره، والتي من دونها ما بقي الحرف العربي بالمغرب، ولما ازدهرت الحضارة الإسلامية بهذه الديار، وماذا تكون «فاس» لو لم تكن بها هذه الجامعة؟ ولعل من أهم الردود ما تفضل به الأستاذ عبدالحميد بناني، وهو ممن تعتز بهم مدينة فاس أصالةً وعلماً ودرايةً بأصول اللغة واللسن، إذ أسرّ إليّ أن التقدم العلمي بالنسبة للمغاربة وأهل فاس والمسلمين عموماً عبر العصور أمر ديني، سواء كان العلم يتصل بالدين، أو بالمعارف الدنيوية التي لها غايات دينية، فالإسلام يفرض معرفة ويفسر الأهلة في القرآن على أساس الفلك، ولذلك درس المسلمون الفيزياء والكيمياء في الجامعة لخدمة الإنسان عقلياً ونفسياً وتربوياً اتباعاً لتعاليم الدين، ولذلك اهتموا بالرياضيات واشتغلوا بالحساب وطوروا الأرقام ونظموها. وفي تاريخ المغرب نذكر بإعجاب تقدم الرياضيات على يد تميم بن طريف مخترع الأرقام على الزوايا التي ذاعت في فاس وقرطبة واعتبرها الإفرنج المعجزة العربية التي قدمت العلم، والذي نقل هذه الأرقام إلى أوروبا هو البابا «سيلفستر» الذي أشرنا إليه الأسبوع الماضي. أما الوزير والمستشار «محمد القباج» في رده عن المقالة أشار إلى ضرورة الحديث عن دور «كراسي» الجامعة، وهو موضوع من الأهمية بمكان. وفي هذا الباب- وتنافساً مع المدرسة المستنصرية ببغداد- نرى جامعة «القرويين» تزداد بمدارس تحاكي هذه الأحياء الجامعية التي يعتبرها العصر الحديث من حسناته، فبعد مدرسة «الحلفاويين»، كانت مدرسة «فاس» الجديدة، ثم مدرسة «الصهريج»، ومدرسة «العطارين»، و«مدرسة الوادي»، ومدرسة «الخصة»، ومدرسة «أبي عنان»، وكل هذه المدارس تحتوي على قاعة للدرس، يتناوب عليها أستاذان، لكل منهما أوقاف خاصة، وإلى جانب هذه الأحياء الجامعية كانت خزانة الملك أبي يوسف، وأبي عنان من بني مرين، ثم المنصور السعدي، هذه الخزائن التي تكون اليوم (خزانة القرويين) ذات الشهرة العالمية والمليئة بالمخطوطات الثمينة التي لا توجد إلا فيها، ومنها أرجوزة ابن طفيل في الطب، وأجزاء من إنجيل القديس لوقا ويوحنا. وعلى نهج ما استمر عليه العمل بالأندلس والمشرق، فإن الطلبة يحلقون على الأساتذة حلقاً متوالية، وقد تبلغ الحلقات عشرين أو تزيد، وربما اختلط بالطلاب علماء رأوا من المفيد بالنسبة إليهم أن يستمعوا إلى وجهة نظر خاصة، وربما استمر الدرس الواحد من الشروق إلى الزوال، ويغلب أن يخصص الصباح لدروس الفقه وما بعد الزوال للعلوم الأخرى، أما عن أمد الدراسة فقد تحدد في هذه المرحلة، إذ كان لا يتجاوز سبع سنوات، وقد كان على «الأوقاف» طوال هذه المدة أن تؤوي الطلاب وتمونهم. ومن أبرز ما عرفته «القرويين» في هذه الفترة نوع من الامتحان الذي يجري الآن في الدول المتحضرة تخريج الأساتذة المبرزين، ذلك هو نظام «الإجازة»، وإن أهم ما توصف به هو مناقشة نيل الإجازة، حيث كانت بحق مجازاً عسيراً لا يقتحمه سوى الأكفّاء المقتدرين. والذي يُعنى بتاريخ «القرويين» لا بد أن يجد متعة في الحديث عن «العادة» التي اكتسبتها هذه الجامعة العريقة منذ فجر الدولة العلوية، فلقد قرر العاهل المولى الرشيد أن يمنح عطلة ربيعية للطلاب الذين رافقوه في المعركة ضد الإقطاعية، فأضافوها إلى العطل التي عرفوها وقد أعطاهم «حق» تنصيب سلطان عليهم أثناء العطلة، يرشح هذا السلطان نفسه من بين الطلبة الآفاقيين بعد أن يشتري سلطنته «بالمزاد العلني». يعيش سلطان الطلبة في هذا الجو المرح زهاء أسبوع كامل على ضفاف وادي الجواهر من مدينة فاس، والحديث عن «سلطان الطلبة» جميل، والعادات التقليدية التي كانت تجري بمناسبة تنصيبه تدل على مدى تكريم السلطة المركزية للمعاهد العلمية، فأنت تشهد سلطان الطلبة في جماعة من وزرائه وأعيان دولته، يستقبل عاهل البلاد الذي يزوره في حاشيته، ويتبادل «الملكان» التحية ولا تكاد أحياناً تميز بين «ملك سبعة أيام» وبين الملك الحقيقي.. ?وأخيراً ?يقفل ?العاهل ?إلى ?قصره ?بعد ?أن ?يقدم «?للمملكة ?العلمية» ?أحمالاً ?من ?السكر ?والسميد ?وقوارير ?من ?الزبد ?والسمن، ?وأكياساً ?من ?النقود، ?وقطيعاً ?مهماً ?من ?الغنم. وتؤكد المصادر أنه كان بفاس في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله (محمد الثالث) الذي راح يكون للقرويين «ملفاً» خاصاً بها سنة 1123ه (1788-1789)، أزيد من مئة وعشرين كرسياً لتدريس العلم، موزعة على مختلف فروع القرويين «المئتين والخمسين» المنبثة في كل منعطف، وفي كل زقاق، وعلاوة على ست ومئة مدرسة أولية من بينها دور للفقيهات، ومن تلك الكراسي يوجد عشرون كرسياً بجامعة «القرويين» نفسها يجري العمل في نيلها على نهج الأكاديميات الأصيلة.