واحدةٌ من مظاهر الاضطراب والفوضى هي المعارك المختلطة، وهو ما يجري اليوم في منطقة الشرق الأوسط على نطاق واسع، وتعتبر معركة الفلوجة نموذجاً كاشفاً. في المعارك المختلطة تتعقد خيوط اللعبة السياسية والاستراتيجية على المستوى الدولي والإقليمي والداخلي، فلكل هدف وغاية، وبالتالي سبيل وطريق، وحين تتقاطع هذه الخيوط وتشتبك في معركة كاشفة ينبغي الابتعاد قليلاً عن المشهد لتكوين رؤية أشمل وصورةٍ أوضح. استهداف المدنيين محرّمٌ دولياً، ولا يجوز لأحد إقراره أو الدعوة إليه، وفي الفلوجة مدنيون أبرياء لهم كل الحق في الحماية والرعاية، ولكن هذا لا ينفي أن الفلوجة كانت منذ سنوات ولم تزل ملجأً للجماعات الإرهابية السُنية، وعلى رأسها تنظيم «القاعدة» بالأمس وتنظيم «داعش» اليوم، والقضاء على الإرهاب ومحاربته مطلب دولي تتفق عليه الغالبية العظمى من دول العالم وشعوبها. من هنا، فإن القضاء على تنظيم «داعش» الإرهابي في العراق وسوريا هو مطلب مهم في المعركة ضد الإرهاب، ولكن هذا لا ينفي تعقيداً آخر، وهو أن القضاء على «داعش» الإرهابي لا يجوز أن يكون بيد «الحشد الشعبي» الإرهابي وميليشيات إيران الشيعية الإرهابية، واستخدام هذه الميليشيات الإرهابية للطائفية بشكل فاقعٍ تظهره التصريحات والصور والقيادات هو جريمةٌ بحدّ ذاتها. للدولة العراقية الحق في محاربة الإرهاب هذا صحيح، ولكن فتح أبواب الدولة العراقية للدولة الإيرانية تتحكم في النخب السياسية وتصنع الميليشيات العسكرية الطائفية التي تدين لها بالولاء ضد الدولة العراقية والشعب العراقي أمر غير مقبولٍ على الإطلاق، والمكوّن السني في العراق مكوّن يتعرض للاضطهاد المنهجي على المستويات كافة، وهو ما أوجد حاضنة لحركات الإرهاب السنية. فقاسم سليماني مخلب الطائفية الإيرانية الميليشياوية يدير المعركة، ولا يستطيع أي سياسيٍ عراقيٍ نفي ذلك، وهادي العامري هو إيراني أكثر منه عراقياً يشارك في ذلك، وإيران تستغل كل ظرف لزيادة تناسل الميليشيات في العراق، من كل صنفٍ ولونٍ، وهو ما يكشف البعد الإقليمي للمعركة الكاشفة في الفلوجة. الصراع الإقليمي يتجلى في العراق من خلال طرفين: إيران الملالي التي تعتمد الطائفية والتدخل الميليشياوي المسلح لإضعاف الدولة والسيطرة عليها من الداخل، والسعودية ودول الخليج التي تعتمد سياسة دعم استقرار الدولة وترفض الإرهاب بشقيه السني والشيعي وتدعم الشعب العراقي بشتى طوائفه وأعراقه وتنوعه، والمعركة الكاشفة توضح الفرق الشاسع بين التوجهين السياسيين الإقليميين تجاه ما يجري في العراق. دولياً، ثمة مشكلة كبرى تسبب الكثير من الاضطرابات في المنطقة، فالإدارة الأميركية المندفعة للتصالح والتعاون مع إيران تسعى لمنح طهران أدواراً إقليمية أكبر من حجمها، وتغض الطرف بقصد عن كل جرائمها وانتهاكاتها للقوانين الدولية، وعلى رأسها تدخلها السافر في الشأن العراقي الداخلي، وتريد الإدارة الحالية صنع شيء يغطي على تغاضيها لسنوات عن تغوّل تنظيم «داعش» في العراق وسوريا. تغضب الإدارة الأميركية حلفاءها التقليديين في المنطقة، فتغضب تركيا بمنحها دوراً أكبر للأكراد في سوريا لمحاربة «داعش»، وتغضب دول الاعتدال العربية بمنحها إيران دوراً أكبر في العراق وسوريا، ولكن هذا يأتي في سياق انعزاليتها وسماحها بالتوسع الروسي حول العالم، من جزيرة القرم مروراً بأوكرانيا وصولاً لسوريا. ثمة غضب سُني على المستوى الطائفي تجاه ما يجري ضد سُنة العراق، وهو غضب شعبي يشاركه غضب لحركات الإسلام السياسي، وهذا البعد يمثل معطى واقعياً يجب التعامل معه، ولكنّ إضفاء البعد الطائفي على المعارك السياسية هو ما تطمح إليه إيران، بينما التعامل السياسي هو التوجه الصحيح، والتعامل السياسي لا يلغي الطائفية كمعطى واقعي، بل يضعها مع غيرها من الحسابات، ويمنع من تغوّل الطائفية على حساب الواقعية السياسية. *كاتب سعودي