تنفس الصعداء كثيرون، في أوروبا وخارجها، لدى إعلان وزير داخلية النمسا «فولفجانج سوبوتكا»، الاثنين الماضي، هزيمة مرشح اليمين المتطرف للانتخابات الرئاسية النمساوية، حيث أشاع نبأ فوز «ألكساندر فان ديربلن» بهذه الانتخابات وتفوقه على مرشح «حزب الحرية» اليميني، حالة ارتياح في أوساط المعتدلين من مؤيدي الحزب الاشتراكي وحزب الخضر والمستقلين وذوي الأصول الأجنبية وأبناء الجالية المسلمة والأجانب المقيمين في النمسا واللاجئين وغيرهم من النمساويين الذين يرفضون العنصرية والتوجهات القومية الشعبوية، ويدعمون الاندماج المجتمعي في بلادهم ويؤيدون الوحدة الأوروبية. وبعد إعلان فوزه رسمياً بمنصب رئيس الجمهورية، جدد ديربلن رفضه تولي رئيس حزب «الحرية»، نوربرت هوفر، منصب رئيس الوزراء، مؤكداً معارضته منح أمر تكليف الحكومة إلى الحزب اليميني المتطرف حال فوزه بالانتخابات البرلمانية المقبلة، مرجعاً السبب إلى الموقف العدائي للحزب تجاه الاتحاد الأوروبي، ولافتاً إلى أن النمسا دولة صغيرة تعتمد على التصدير ولا تستطيع فك ارتباطها بالاتحاد الأوروبي، لما يعنيه لها من مصالح اقتصادية وسياسية حيوية. وألكساندر فان ديربلن، سياسي وخبير اقتصادي ورجل دولة نمساوي، اشتهر بخلفيته الاشتراكية وبانتمائه سابقاً لحزب الخضر، حيث توجد أشد المواقف معاداة لليمين، وتعود أصول ديربلن العائلية إلى نبلاء روسيا، والتي تركها جده أثناء الثورة البلشفية حين لجأ -في عام 1917- إلى أستونيا، وبعد الاحتلال السوفييتي لأستونيا عام 1940 فر والد ألكسندر فان ديربلن، مع «ألما سيبولد» التي ستصبح زوجته فيما بعد، إلى ألمانيا، ومنها لجآ إلى فيينا. وفي فيينا ولد ألكسندر فان ديربلن عام 1944، وكانت النمسا قد أصبحت جزءاً من «الرايخ الثالث» (ألمانيا النازية) عقب عملية «آنشلوس» (العسكرية السلمية) في مارس 1938 وظلت جزءاً منه حتى نهاية الحرب العالمية الثانية في مايو 1945. وبعد أن أمضى ألكسندر بعض طفولته في فيينا، فإن عائلته التي كانت تتابع بقلق أخبار تقدم «الجيش الأحمر»، فرت إلى مدينة إنسبروك عاصمة ولاية تيرول النمساوية المجاورة لجبال الألب، وهناك بدأ دراسته في عام 1954، وحصل في عام 1958 على الجنسية النمساوية بدلاً من الجنسية الأستونية، ثم اجتاز امتحان الثانوية العامة في عام 1962، ليلتحق بجامعة إنسبروك، حيث درس الاقتصاد العام ونال فيه درجة الماجستير عام 1966، ثم شهادة الدكتوراه عام 1970. وفي الأثناء عمل خبيراً بمعهد الدراسات المالية التابع للجامعة ذاتها بين عامي 1968 و1971، كما عمل مستشاراً بالمعهد الدولي للتنظيم والإدارة في برلين خلال الفترة بين 1972 و1973. لكن ديربلن عاد إلى إنسبروك في عام 1976، ليتم تعيينه أستاذاً في جامعتها، قبل أن يزاول التدريس في الأكاديمية الفيدرالية في فيينا بين عامي 1977 و1980، ثم أصبح أستاذاً للاقتصاد السياسي في جامعة فيينا حتى عام 1990، وابتداءً من ذلك التاريخ أصبح نائباً لعميد كلية الاقتصاد والعلوم الاجتماعية، ثم عميدها حتى عام 1994، وخلال هذه السنوات، نشر العديد من البحوث والكتب حول مشكلات الاقتصاد النمساوي وفرص تطوره. وفي أواخر السبعينيات انضم ديربلن إلى «الحزب الديموقراطي الاجتماعي في النمسا»، ثم بعد عشر سنوات ترك الحزب وانضم في عام 1992 إلى «حزب الخضر -البديل الأخضر» الذي اقترح في العام ذاته اسم ديربلن لرئاسة ديوان المحاسبة، لكن دون جدوى، غير أنه استطاع خلال الانتخابات التشريعية لعام 1994 دخول المجلس الوطني، وهو الغرفة السفلى في البرلمان النمساوي، ثم أصبح المتحدث الفيدرالي باسم الحزب في ديسمبر 1997، فرئيساً لمجموعته النيابية في البرلمان عام 1999. وبمناسبة الرئاسة النمساوية للاتحاد الأوروبي، قام ديربلن بتنظيم «القمة الخضراء» في فيينا، في مارس 2006، واستدعى للمشاركة فيها عدداً من وجوه اليسار الاجتماعي الديموقراطي وقادة النشاط البيئي الأوروبيين، مثل سيجولين رويال ودانيال كوهن بنديت. وبعد الانتخابات البرلمانية في سبتمبر 2008، أعلن ديربلن في 3 أكتوبر التخلي عن مهامه التنفيذية في حزب الخضر، عقب أطول مدة أمضاها متحدث باسم الحزب في منصبه، فخلفته «إيفا جلاوشنيج بييزك» الناطقة الحالية باسم الحزب، واستمراراً لمنعطف الرغبة في نبذ أي التزام حزبي، قدم ديربلن استقالته من المجلس الوطني لحزب الخضر في يوليو 2012، بعد أكثر من سبعة عشر عاماً على عضويته فيه، وفي الآونة ذاتها تقريباً أصبح عضواً في المجلس النيابي لولاية فيينا، لكنه لم يترشح لنيل التجديد في انتخابات العام الماضي، حيث كرس كل جهده لخوض انتخابات الرئاسة، وهكذا أعلن في يوم 8 يناير الماضي ترشحه للانتخابات الرئاسية، وسرعان ما نال الدعم من حزبه السابق (حزب الخضر)، لتضعه استطلاعات الرأي في مرتبة متقدمة بين مرشحي الرئاسة. وفي الجولة الأولى من الاقتراع، وقد جرت يوم 24 أبريل الماضي، حل ديربلن في المرتبة الثانية بنسبة 21.3? من إجمالي عدد الأصوات، لكن بفارق كبير عن مرشح اليمين المتطرف «هوفر» الذي تصدر بنسبة 35.1? من الأصوات. بيد أن ذلك الترتيب انقلب في نتائج الجولة الثانية من الاقتراع، يوم 22 مايو المنصرم، حيث فاز ديربلن بحصوله على نسبة 50.3? من الأصوات، متقدماً بفارق ضئيل لا يتجاوز 31 ألف صوت على هوفر الذي بادر للاعتراف بالهزيمة وتوجيه التهنئة لمنافسه، وبذلك أصبح ديربلن أول ناشط بيئي يترأس النمسا، بل أول ناشط بيئي يترأس دولة بالانتخاب المباشر، بعد «رايموندس فيونيس» رئيس لاتفيا الحالي القادم من «حزب الخضر»، والذي انتخبه برلمان بلاده في يونيو من العام الماضي. لكن خلافاً للنظام البرلماني في لاتفيا، يتمتع الرئيس الاتحادي للجمهورية في النمسا، حيث يوجد نظام ديموقراطي تمثيلي برلماني شبه رئاسي، بصلاحيات تنفيذية معتبرة، فهو يتولى تمثيل الجمهورية في الخارج، ويدعو المجلس الوطني لعقد دوراته، وينهي دورات الانعقاد، كما يمكنه حل المجلس وفق شروط معينة، ويقوم الرئيس بتعيين المستشار الاتحادي (زعيم أقوى حزب في البلاد)، كما يعين أعضاء الحكومة بناءً على اقتراح المستشار، ويؤدي محافظو المقاطعات الاتحادية اليمين القانونية أمامه. ومن واجباته أيضاً إبرام المعاهدات الدولية، والمصادقة على توافق القوانين الاتحادية مع أحكام الدستور، كما أنه القائد الأعلى للجيش الاتحادي. ولعل ديربلن في موقع بهذه الصلاحيات يستطيع الدفاع عن بقاء النمسا في الاتحاد الأوروبي أمام صعود اليمين المعادي للوحدة الأوروبية، لاسيما أن النمسا عضو مؤسس في الاتحاد الأوروبي وفي منظمة التعاون والتنمية، كما أنها جزء من اتفاقية شنغن ومن منطقة اليورو. إنها المهمة الأساسية التي يرى «الخضر» أن التاريخ ألقاها على عاتقهم الآن! محمد ولد المنى