أشاد صندوق النقد الدولي، ووزراء المالية الأوروبيون، باتفاقهم الجديد بشأن اليونان، ووصفوه بأنه «اختراق كبير». ولكن الواقع أن هذا الاتفاق يمثل بداية عملية خداع دائم، مصمم بغرض تحويل المشكلة اليونانية العويصة، إلى موضوع سياسي غير ذي شأن بالنسبة لشركاء اليونان من دول الاتحاد الأوروبي، وتقليص المخاطر المالية، وكذلك مخاطر فقدان السمعة، بالنسبة لصندوق النقد الدولي. فمنذ أن وافقت اليونان على حزمة إنقاذ -مدعومة أوروبياً- بقيمة 95,8 مليار دولار (86 مليار يورو) في شهر يوليو الماضي، وصندوق النقد يصرخ محذراً من أن دَين اليونان غير قابل للاستدامة. كما رفض الصندوق المشاركة في حزمة الإنقاذ، ما لم توافق أوروبا على تخفيض الدَّين، وهو ما خلق مشكلات سياسية للحكومات الأوروبية، الداعمة لحزمة الإنقاذ وخصوصاً حكومة ألمانيا، التي لا تستطيع المخاطرة بإقصاء الناخبين خلال الوقت المتبقي على الانتخابات العامة 2017، كما أن تعبيرها العلني عن شكوكها في فعالية الاتفاق، يعد شيئاً غير مرحب به، في وقت يتعرض فيه مشروع الاتحاد الأوروبي للهجوم، بسبب احتمالات الخروج البريطاني، ونشاط الأحزاب اليمينية الشعبوية في بقية دول القارة. والحقيقة أن لدى صندوق النقد الدولي أسبابه الخاصة التي تدفعه للمناداة بإعادة هيكلة الدَّين اليوناني علناً، وبأعلى صوته. فعلى اليونان دَين بـ14 مليار دولار تقريباً للصندوق، وهو دَين باهظ نسبياً ومرهق. وبموجب الاتفاق الأخير حصل كل طرف على ما يريده، إلى حد ما. فنادي وزراء مالية منطقة اليورو، وافقوا على النظر في تخفيض الدين اليوناني، بعد انتهاء خطوات حزمة الإنقاذ الحالية في عام 2018، بما في ذلك سداد جزئي مبكر للديون الرسمية الحالية المقدمة لليونان، ومن بينها قروض صندوق النقد الدولي. كما وافق الأوروبيون أيضاً على الإفراج عن الشريحة التالية من حزمة الإنقاذ البالغة 10,3 مليار يورو، على امتداد دفعات عدة على مدار العام. وبعد أن تلقى صندوق النقد الدولي هذه الوعود تراجع عن طلبه السابق الخاص بإصدار قرار فوري بشأن خفض الديون، ووعد بالمشاركة في حزمة الإنقاذ الحالية، بعد موافقة مجلس إدارته. والواقع أن الاتفاق الجديد جعل جميع الأطراف تشعر بالسعادة: فالمخاطر السياسية قلصت إلى أدنى حد في المستقبل المباشر على الأقل، كما لم يضطلع أي طرف بالتزامات محددة، واتفقت الأطراف المختلفة على العمل معا كشركاء وليس كخصوم. ولكن ماذا عن اليونان نفسها؟ لتأمين الشريحة التالية من حزمة الإنقاذ، يتعين على برلمانها الموافقة على عدد من قوانين زيادة الضرائب، وزيادة ضريبة القيمة المضافة والرسوم على المحروقات، والتبغ، واستخدام الإنترنت، وكان البرلمان قد وافق في تاريخ سابق على خفض المعاشات. كما تم أيضاً تقنين صندوق الخصخصة المطلوب بموجب صفقة الإنقاذ، وتقوم حكومة إليكسيس تسيبراس اليسارية بمواصلة السير في تنفيذ هذه الإجراءات -رغماً عنها- لضمان استمرار تدفق الأموال المطلوبة. أما الإصلاحات الليبرالية المطلوبة من قبل الدائنين، فاليونان ستوافق عليها، إن وافقت في النهاية، على مضض، وإذا ما شرعت في تنفيذها فإن ذلك التنفيذ غالباً ما سيتسم بعدم الكفاءة. يشار إلى أن أداء اليونان الاقتصادي لم يكن جيداً، منذ البدء في حزمة الإنقاذ «فناتجها القومي الإجمالي، تقلص بنسبة 1,2 في المئة. ونسبة البطالة استقرت عند 24 في المئة. أما تحصيل الضرائب فقد تحسن نوعاً ما، ولكن الإنفاق الحكومي نما بسرعة أكبر. والميزان التجاري لم يتحسن، وليس هناك دليل على وجود بشائر لأي نوع من التعافي الاقتصادي، أو أي دليل على أن اليونان ستكون قادرة على الاعتماد على نفسها، من دون الحصول مساعدات إضافية بعد عام 2018.والهدنة بين المجموعة الأوروبية وصندوق النقد الدولي تعني مع ذلك، أنه حتى مع احتمال احتياج اليونان إلى المزيد من الأموال في عام 2018، فإن ذلك سيكون موضوعاً لنقاش عام بعد الانتخابات اليونانية، وإن كان من المتوقع أن يكون هذا النقاش أكثر هدوءاً من سابقه، لأنه سيتعلق بالأساس بإعادة تمويل القروض القديمة، وترحيلها إلى آجال استحقاق أبعد. والمحصلة النهائية للاختراق الذي سُجل يوم الأربعاء الماضي، لا يتمثل في إعفاء اليونان من الديون، وإنما لكونه بداية لترحيل أزمتها إلى وضعية تغدو بموجبها أزمة مزمنة وشبه منسية، وهي حالة تشبه إلى حد كبير حالة أحد الأقرباء الذي توقف مخه عن العمل، ويرقد معلقاً بأجهزة التنفس في مستشفى يقع في مكان ما. *محلل سياسي روسي مقيم في برلين ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»