من يتابع معالم الواقع الإسرائيلي في 2015 و2016، يلحظ وفق سياسيين ومحللين إسرائيليين، أن الدولة الصهيونية تواجه سنوات سيئة؛ فهناك انسداد أفق مسار المفاوضات عبر فرض الوقائع على الأرض من استيطان يقود إلى الدولة ثنائية القومية. كما أن هناك تراجعاً في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، فعلى الرغم من التملق السياسي المتصاعد من المرشحين للرئاسة الأميركية، فإن الشرخ ما عاد يقتصر على معسكر الديمقراطيين، بل أصبح يشمل معسكر الجمهوريين أيضاً. وقد وصل ذلك الشرخ إلى «الجالية اليهودية»، سواء في الولايات المتحدة أو في بقية أنحاء العالم. أضف إلى ذلك أن حركة مقاطعة الاحتلال الإسرائيلي حول العالم BDS (حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات) نجحت في استقطاب آلاف المؤيدين، ونقلت قادة الدولة الصهيونية من حالة الغضب إلى حالة قلق، بعد أن تسببت هذه الحركة بخسائر سياسية وإعلامية واقتصادية ومعنوية مهمة للدولة الصهيونية. كما أن قيام المفوضية الأوروبية بوضع ملصقات تميز المنتجات القادمة من «المستوطنات»، أثار هو كذلك غضب القيادة الإسرائيلية إذ اعتبرته نوعاً من أنواع العقوبة والمقاطعة. هذا كله، كي لا نذكر معالم أخرى عن سوء الوضع داخلياً وخارجياً. وفي هذا الأثناء، ظهرت «هبّة ترويع الإسرائيليين» الفلسطينية منذ أكثر من ثمانية أشهر، والتي اعتبرها سياسيو وجمهور اليمين واليمين المتطرف إرهاباً صِرفاً يقف وراءه تحريض من الرئيس الفلسطيني والفصائل الفلسطينية والإعلام، مقترحين حلولا عسكرية لمواجهتها، بل رأوه متابعة للجهد الفلسطيني والعربي والإسلامي لاستهداف اليهود! وبالمقابل، ظهر موقف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي، وإن كانت الشريك في كثير من الجرائم بحق الفلسطينيين، إما عبر مبادراتها أو عبر تنفيذها قرارات السياسيين، فإنها اليوم تحذر قيادتها السياسية من مواصلة طريق التصعيد مع الفلسطينيين، معتبرةً أن كل الخطوات التصعيدية التي تقرها الحكومة الإسرائيلية لن تحقق أي هدف سوى تحفيز الفلسطينيين أكثر على مواصلة هبّتهم. كذلك، يحاول باحثون ومراقبون إسرائيليون إقناع قيادتهم بأن الشعور الفلسطيني بالاضطهاد الوطني والاقتصادي والشخصي، هو المغذي الأول لهذه الهبّة، وأن الحل يجب أن يكون سياسياً وليس عسكرياً. وهؤلاء يطالبون في كتاباتهم بضرورة وقف السعار اليميني «الشعبي» الإسرائيلي وكبح إجراءات حكومتهم، وينادون بعدم اللجوء إلى الإعدام الميداني الذي يزيد عدد الضحايا، وكذلك عدم السماح للإعلام بنقل صور ما يجري باعتباره مصدر إلهام للشباب الفلسطيني، مع متابعة انتقاد نتنياهو باعتباره يبحث عن العلاج العنيف قبل معرفة المرض. إسرائيل تقوم بإذكاء نار الهبّة الفلسطينية يومياً بممارساتها، وعلى قاعدة أن الدم يستنهض الدم، لاسيما أن هذه الأمور أصبحت تمس في العمق الجانبين الوطني والديني للشعب الفلسطيني، على غرار ما يحدث في المسجد الأقصى. وتتجلى هذه الممارسات الساعية لقتل «الهبّة»، أولا: في تكثيف عمليات التنكيل والاعتقالات والإعدامات الميدانية، والحصار الاقتصادي الخانق، وتدمير منازل منفذي العمليات الفدائية، وسحب الإقامات من مواطني القدس، واستهداف أطفال الحجارة قتلا واعتقالا، وإقامة الحواجز على مداخل القرى والبلدات والمدن واقتحامها، والسكوت على (بل تشجيع) قطعان المستوطنين في اعتداءاتهم… الخ. ثانياً: إخراج الجناح الشمالي في «الحركة الإسلامية» في فلسطين 48 «عن القانون»، وهي الحركة التي تدير حملة «الأقصى في خطر» منذ 20 عاماً، استهدافاً ليس الحركة الإسلامية بمفردها، بل لكل فلسطينيي 48. ثالثاً: «البرهنة» للفلسطينيين، عبر الإعدامات الميدانية، أن أبناءهم «يموتون مجاناً». مقابل كل ما سبق، وعلى الرغم من الميزان غير المتوازن، نرى الفلسطينيين في الاتجاه المعاكس مصممين على ديمومة «الهبّة» عبر مطالبهم: أولا، تطبيق قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير بوقف التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال، والعودة إلى الوحدة الوطنية بعد تجاوز الانقسام الفلسطيني البائس. ثانياً، تفعيل الدور العربي الإسلامي، الرسمي والشعبي. ثالثاً، تعميق التعاون مع قوى التضامن الدولي، وعلى رأسها حركة مقاطعة الاحتلال الإسرائيلي حول العالم (BDS). رابعاً، عودة الفصائل الفلسطينية لسابق عهدها النضالي عبر المساهمة في إيجاد إطار قيادي موحد لضمان ديمومة «الهبّة»، وعدم الاكتفاء بالموقف الإعلامي اللفظي الممجد! لقد مرت ثمانية أشهر على «الهبّة». ووفق إعلام الدولة الصهيونية جرى تنفيذ 282 عملية ومحاولة لتنفيذ عمليات إرهابية خطيرة، كما تصفها حكومة اليمين المتطرف، كان معظمها عمليات إطلاق نار ودهس وطعن، قتل خلالها 34 إسرائيلياً، وأصيب 342 آخرين بجروح، فيما زعم «الشاباك» (جهاز الأمن العام الإسرائيلي) وجيش «الدفاع» أنهما أحبطا أكثر من 290 عملية منذ بداية عام 2015، منها 25 عملية اختطاف، و15 عملية استشهادية. وإن كان ثمة من رأى انخفاضاً في العمليات الفلسطينية، فإن عدداً من رجال الاستخبارات والأمن وصفوا هذا التراجع بالمؤقت الذي قد ينقلب خلال يوم واحد أو حتى ساعات قليلة. وأحداث ومعلومات الأسبوع الماضي تؤكد ذلك، غير أن المحزن فعلاً يتجلى في غياب توافق فلسطيني حول أهداف وآفاق «الهبّة»، الأمر الذي أبقاها في دائرة الفعل الشعبي الفردي الذي كان يمكن أن يتطور نحو هبّة شاملة.. ولابد من حدوث ذلك طال الزمان أم قصر.