ألقى رئيس حركة «النهضة» التونسية راشد الغنوشي خطاباً يوم الجمعة الماضي، 20 مايو الجاري، أعلن فيه عن استراتيجية جديدة لحركته. وهو إذ فعل ذلك، أدرك ضرورة إعادة بناء الحركة المذكورة، في بنيتها العقدية الاستراتيجية، والحق أنها خطوة دالة في مرحلة جديدة مفعمة بالمخاطر والمزالق، وربما بتوقع ما قد لا تُحمد عقباه. ولعلّ هذه الخطوة تكون مقدمة لما يفعله آخرون في العالمين العربي والإسلامي، بعد أن اجتاح العالم تسونامي تطرف جديد منذراً بقطع الرقاب، تمهيداً لفعل جديد يأخذ الأمور بأقصى عواقبها الدموية. نعم، لقد جاء الغنوشي بدعوته الجديدة في الوقت المناسب، لأن ذلك مهم في قطع الطريق على «داعش» وعلى من قد يراهنون على نجاحه، وربما كذلك إحساساً بالبحث عن طريق أكثر سلامة. ها هنا، ينبغي أن يُشار إلى أن ما أعلن عنه رئيس حركة «النهضة» التونسية لم يأت دون مقدمات سابقة شهدنا بعضها في تونس بمناسبة لقاءات ومؤتمرات بين مجموعات من الباحثين والمفكرين العرب. وهو الآن ربما «قرأ الرسالة جيداً»، رسالة العنف الوحشي الذي قاده «داعش» إلى مستوى الجرائم الدولية الكبرى، بعد أن ألحقه بالإسلام، الذي يقول: (مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً). أما «الحق» هذا الذي يُقتل إنسان بموجبه، فلا يسوّغه أقلّ من قتل إنسان على يد القاتل. والإسلام أعلن مواقف تسمح للناس بالاجتهاد العلمي في ضوء ما يواجهونه في ظروف استثنائية، فكان القول التالي صريحاً بمقتضى العقلانية والحياة المجتمعية. وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بشؤون دنياكم! وهذا بدوره فتح آفاقاً «لمن يريد» أن يحافظ على الأمرين كليهما. وقد نتابع الموقف حيث نتعامل معه من موقع فلسفي. وهذا يضعنا أمام ثنائية «المطلق» و«النسبي». ونحن كنا أتينا على ذلك سابقاً في سياق كتابات أخرى. إن الإنسان يتلقى ما يتلقاه من من حيث هو، انطلاقاً من المرور بثلاث مرجعيات، هي المعارف التي كونها المتلقي، والمصالح، والقوة أو السلطة بنحو أو آخر. وهذا يعني أن جميع المؤمنين مشاركون في امتلاك الحقيقة الدينية المعنية هنا. وفي هذا المنطلق، يغدو جميع المؤمنين متساوين من حيث الأساس في التواصل الديني، وهي نتيجة كبرى. لقد أعلن الغنوشي أن حركة «النهضة» تتخلى عن النشاط الديني والدعوي، لتنتقل إلى الحلبة التي يشترك فيها جميع أولئك. على هذا النحو يمكن أن يقترب الجميع من الجميع وفق خصوصياتهم، دون تكفير أحد، وحيث تصل المسألة إلى هذا المنعطف يتمثل هؤلاء: أنتم أعلم بشؤون دنياكم. ومن ثم، فإن هذه الشؤون إذ كانت شؤوناً دنوية، وسياسية واقتصادية وغيرها، فإن المطلوب هو تأسيس الأداة المناسبة لذلك، وهي العمل السياسي وغيره. وكما بثت وسائل الإعلام، فإن أطرافاً من خصوم «النهضة» وربما كذلك من القريبين منها، اتهمت المسؤولين عنها، بأنهم اكتشفوا بأن «الإسلام السياسي» قد أخفق في عمله الاستراتيجي والدعوي المباشر. ومن طرفنا، فإننا نرى أن هؤلاء استطاعوا التقاط «الرسالة» من الشعب التونسي بمختلف مكوناته الثقافية والأيديولوجية، وبمختلف مرجعياته في الحقول الاقتصادية والسياسية والتربوية.. إلخ. وتلك «الرسالة» تتمثل في رفض أوّلي للصراعات والحروب الدينية التي تلتهم العالم العربي من طرف، وفي الوصول إلى خيار «الحياة البشرية المجتمعية في سياقاتها وتحولاتها المركبة كلها»، من طرف آخر. وإذا وصلنا إلى هذا المنعطف، فإننا نفترض أن جموعاً كبيرة من سكان العالم العربي وصلوا إلى مراحل من الإرهاق بسبب من تحويل عقائدهم الدينية وغيرها إلى مسوغات لاستباحة الدماء، وراحوا يبحثون عن طرق تتيح لهم الحرية في وضعياتهم الدينية وخياراتهم السياسية والأيديولوجية وغيرها، ليصلوا إلى أنهم يلتقون مع مواطنيهم عبر التشارك في وطن عليهم أن يطوروه في خدمتهم جميعاً. وها هنا، تبرز مسائل الحرية والديمقراطية والحداثة والكرامة... إلخ، لتتحول إلى منصات ينطلقون منها باتجاه تأسيس أوطان حرة ذات سيادة، وشعوب تعيش على طريق مفتوحة من التقدم التاريخي. كما نضع يدنا ها هنا على إقرار خفي أو معلن بأن تيارات من الإسلام السياسي، ما عليها إلا أن تغيب في التاريخ البشري.