منذ الدورة الأولى، وصولاً إلى الخامسة عشرة، هذه السنة، استطاع «منتدى الإعلام العربي»، الذي ينظمه «نادي دبي للصحافة» أن يستجيب على الدوام لتحدّي التميّز في اختيار شعاراته، سواء في استقراء الحاضر، أو في استشراف المستقبل. غدا النادي، كما المنتدى، علامتين بارزتين وعنوانين بالغي الحضور في مهنة الإعلام والتطور المتسارع الذي شهدته وتشهده تحديداً خلال هذا العقد ونصف العقد من عمر «المنتدى». في البداية كان الحضور الطاغي للصحافة المكتوبة، بشيوخها الذين توّجت كوكبة منهم بلقب «شخصية العام» وكتاب أعمدتها الطامحين وشبابها الطامحين الذين بات بضع مئات منهم يحملون الجائزة ويفتخرون بها كحافز يدفعهم إلى المثابرة والتفوّق الدائم، إلى تطوير كتابتهم والوعي بمسؤوليتهم غير المباشرة عن لغتهم، لغتنا الجميلة، وكذلك إلى احترام «صاحبة الجلالة» التي تكرّس انتماؤهم إليها. ولعل استمرار تركيز معظم الجوائز على الصحافة المكتوبة اعتراف بأن معياريتها لا تزال الأكثر دلالة، وبأن الصحف الورقية لا تزال المعترك المهني الأهم. مع الدورة العاشرة بدأ «المنتدى» يرتّب لتدافع الأجيال، ولتنوّع الوسائل والوسائط، وغدا من يفكّرون في تيماته وورشاته يضخّون جرعات من الإعلام الإلكتروني ويخصّونه لا بمجرّد التفاتات، بل أيضاً بجوائز لعدد من رواده. وكواحدٍ ممن واكبوا «المنتدى» منذ بدايته، وجدتني في أكثر من لقاء صحفي أو متلفز أسجّل اغتباطي برؤية القادمين الجدد إلى هذه التظاهرة السنوية، فحضورهم واندفاعهم، آمالهم وطموحاتهم، عفويتهم وأفكارهم الجديدة تبثّ روحاً إيجابية في «المنتدى» الذي كان يتنقّل بين جنبات العمران في دبي ليتفاعل أيضاً مع كل جديد منها، من «برج العرب» إلى «قصر السلام» و«أبراج الإمارات» والعديد غيرها، وصولاً إلى «مركز التجارة العالمي» الذي غيّر فيه «المنتدى» حلّته، مستنبطاً سوق عكاظ حديثة وشبابية و«صديقة للبيئة». لم تظهر شبابيّته فقط في الديكورات المستوحاة من عوالم الشبكات الافتراضية، بل أيضاً في المدرجات الصغيرة المكتظة للاستماع إلى/ والنقاش مع مختصّين عاملين في كبرى شركات تقنيات التواصل. ثمة لغة جديدة بات هذا الجيل يألفها ويجد أنها تبقيه متصلاً بالعالم، على الموجة ذاتها مع أترابه، يستخدمون الأدوات نفسها لـ «التغريد» و«الإبحار» وإتقان التعامل مع محركات البحث والتنقّل بين «المواقع» المتدفقة بالصور والفيديوهات والنصوص والمحاورات. هذا عالم واسع ومفتوح، لم يكشف كل أسراره بعد، ولا حدود لجديده. كل ذلك احتلّ أمكنة في صدارة «المنتدى» الذي صار قادراً على إدراك نفاذه وتأثيره ومدى التفاعل معه بشكل مباشر وفوري. ويأتي شعار هذه السنة - «أبعاد إنسانية» - ليضفي «المنتدى» على محفله المتخم بالتقنيات اللمسة الضرورية، المطلوب التذكير بها وتظهيرها لتكون في الأذهان. فالإعلام الجديد حطّم القوالب القديمة التي غرقت في روتينيتها أو في القيود التي فُرضت عليها، وسواء سمّي «الإعلام المجتمعي» أو «التواصل»، فإنه يشير إلى بشر يباشرون نمطاً ومقداراً غير اعتيادي من الحرية، بل التحرّر من القيود، في تناول شؤونهم. وأياً يكن الخبر الذي يثير التفاعلات فإن «تغريدة» واحدة أو «بوستاً» واحداً كفيلان بتفجير الحس النقدي بمعزل عن تفاوت الأهواء والمفاهيم. بالتأكيد هذا هو الإنجاز الذي يُحسب لوسائط التواصل حتى لو كان لوجهات النظر السليمة والحكيمة أن تمرّ أحياناً وسط سيل هائل من السخافات والبذاءات. عندما كانت تتردّد مناشدات مطالبة بـ «أنسنة الإعلام» كان يُظن أن أصحابها ينظّرون أو يتفلسفون في ما لا يحتمل الجدل، فإذا لم يكن الإنسان محوراً للإعلام فأي محور آخر يستحق أن يشغله؟ حتى في السياسة أو الاقتصاد، وبطبيعة الحال في الثقافة، لا يمكن إشعار المتلقي بأنه إزاء آلات أو ماكينات أو أساطير وأوهام، ولا يمكن إقناعه بأن يضع حدوداً وحواجز لعقله فلا يطرح أسئلة ولا يحاول أن يفهم أو أن يضع في سياق معيّن. إحدى أكثر المسائل صفعاً للعقول كانت تلك الموجات من اللاجئين قسراً، بل «الانتحاريين» الذين يركبون الأمواج قسراً ويقامرون بحياتهم بحثاً عن أي مكان يحترم إنسانيتهم، ويمنحهم فرصة أن يكونوا بشراً معترفاً بهم، لا قطعاناً أو أرقاماً. بل إن أجيالنا الراهنة كافةً تتعرّض حالياً لأقسى الاختبارات، إذ تتبلّد مشاعرها حين تتعوّد على مشاهد شبه يومية للقتل والإبادة، وكأنهما أضحيا شيئاً فشيئاً من عاديات الحياة. لعل منتدى دبي أراد، على طريقته، أن يطلق دعوة ناعمة، لكن مدوّية، إلى ردّ الاعتبار للإنسان، تحديداً من خلال الإعلام الذي صار بوسائطه الحديثة- المكمّلة للمكتوب والمرئي والمسموع- جزءاً لا يتجزأ من ذات كل إنسان.