عندما نتحدث عن الإعلام بكل مكوناته، فنحن نتحدث عن منظومة متكاملة غزت بها الدول الكبرى الشعوب، ومراراً ساهمت في انتصارها بالحروب وغيرت مفاهيم جذرية لديهم، بل استطاعت أن تغير سلوكيات شعوب وعاداتها وتقاليدها وإدخال قيم جديدة عليهم وأنماط حياة لم تكن مألوفة لديها، فالإعلام يمر بمراحل عديدة في سلسلة المساهمة الفاعلة في الإدارة العامة والتنمية الاجتماعية، بل كجزء مهم من سياسات ودبلوماسيات الدولة ومن القيام بالواجب وحد الكفاف إلى الإقناع، إلى التفوق، إلى الإبداع، إلى الابتكار، إلى التأثير المتميز، إلى التفرد، إلى توجيه العقل الجمعي، إلى برمجة مسار التوجهات، إلى تكييف الفكر، إلى صناعة التحضر والمدنية. وإذا سألت كيف تقيم حال الإعلام بصورة عامة في الوطن العربي؟ فالجواب هو دون المتوسط، ويكفي أن كل الأخبار التي يضعونها على عناوين الصفحات الأولى في الصحف، وفي نشرات الأخبار المتلفزة قد عرفها القراء قبل ذلك بساعات طويلة وناقشوها في مواقع التواصل الاجتماعي. ففي الإعلام العربي بالتحديد، هناك غياب واضح للاستراتيجيات الإعلامية الوطنية والاعتماد على التوجيهات الوقتية وليدة الحاجة والموقف. ويوجد غياب مخزٍ للابتكار، ناهيك عن الطامة الكبرى، وهي الشخصنة وإعطاء سلطات مطلقة لبعض الأشخاص، والسلطة المطلقة معروف أنها الأب الشرعي للفساد في مهنة مهمة مثل الإعلام، فتجد التوريث لسبب أو آخر واللولبيات الإعلامية والتسويقية وفق الجنسيات، وبالتالي الاحتكار وإنتاج برامج جلها في غاية الاستخفاف بعقل المشاهد وإقحامها بالعنوة المالية لجعلها جزءاً من ثقافتنا، وما الذي سأستفيد منه كمشاهد من إرضاء الغرور الشخصي لبعض الشخصيات النرجسية التي تعاني من عقد نفسية لا حصر لها؟ فالإعلام في بعض الأحيان لا يخاطب إلا نفسه وفئات معينة من المجتمع. فلماذا لا توجد لدينا قنوات باللغات العالمية الأكثر انتشاراً لمخاطبة العالم؟ ولماذا يُختزل الرأي العام في التطبيل والصراعات الشخصية والطائفية ويهمل الصالح العام؟ فمن يقف خلف المُنتَج الإعلامي؟ وأين هي قنوات وبرامج الثقافة والفنون والتراث والتاريخ والعلوم المعرفية المختلفة والسياسة الهادفة؟ ولذلك قد تجد 8 قنوات أو أكثر لمجال معين تعيد البرامج والأحداث المسجلة طوال اليوم، والذين يشاهدونها يمكن أن تجمعهم في غرفة واحدة! ولماذا كلما أردنا أن نقدم برنامجاً جديداً نأتي ببرنامج أو قناة عالمية معروفة ونُعرّب المضمون، فهل نحن مفلسون إعلامياً لهذه الدرجة؟ وكانت النتيجة أن الوطن العربي أصبح حبيس «إنستجرام» و«تويتر» و«التغريدات» و«فيسبوك» وما به من «لايكات»، وباقي برامج التواصل الاجتماعي، حتى أصبحت بعض الدول العربية تتصدر العالم في عدد التغريدات، متفوقةً على أميركا والصين في سابقة إعجازية، فأخيراً تقدمنا في شيء، ولكن لا أنصح بقراءة تلك التغريدات حتى لا تنصدموا وتعرفوا أننا تقدمنا للوراء. كما تجد صحفاً ظهرت خلال سنوات، مقارنةً مع الصحف العريقة التقليدية، وأصبحت في الترتيب الأول عربياً وفق نسبة القراء، فالأذواق تغيرت وكذلك نوعية القارئ والخبر الذي يستسيغه المتلقي. وبالنظر للإعلام العربي نجده منفصلاً عن المجتمع العربي، خاصة في ظل بروز الإعلام الجديد أو «الديجتال ميديا»، ولم تعد الرسالة من مرسل إلى مستقبل، بل هي رسالة تفاعلية آنية بدلاً من الصحف التي تكرر نفس المحتوى الورقي على الإلكتروني وأخبار كثيرة وحريات قليلة، فهرب الجمهور، ولا أعتقد لهروبه رجعة. ففي الإعلام التقليدي تنتهي المشاريع الهادفة إلى أن تصبح مشاريع فقط، والإبداع يتحول للإمتاع والبهرجة. وجاءت ثقافة مؤشرات الأداء والفهم الخاطئ لها لتجعل الموظفين يتسابقون على الإنجاز والتوقيت وإهمال النوعية، ويسأل الموظف عن الدخل وعدد المشاهدين، وليس التأثير وأرقام وهمية، أو يتم تحقيقها بطرق ملتوية، ويكون عدد المشاهدين وخلافه ضمن العقد الرئيسي مع الشركة، التي فازت بالمشروع فيتحول المشروع الوطني إلى مسخ وطني. فمتى سينهض العالم العربي إعلامياً ويدخل عالم الإبداع والابتكار وبدل الجامعات يدرس الإعلام بالوسائل التفاعلية الحديثة وفي كليات ومعاهد تطبيقية متخصصة مرتبطة بالصناعات والمؤسسات الإعلامية وإعلام المستقبل؟ ومتى نمتهن الإعلام التفاعلي، ونتعامل مع المنظومة كاقتصاد وخدمة للمجتمع، ووسيلة مستدامة للتحول المعرفي؟ بعض المناصب والهياكل التنظيمية والمؤسسات وأنماط العقليات والأفكار والممارسات يجب أن ُتحال للتقاعد، وليس الأشخاص فقط، حتى نحد من الفساد، ونكفل حرية الرأي المسؤول، والبعد عن الشخصنة والأجندات الخارجية، والأفكار الهدامة، بعيداً عن التخوين والاتهام بعدم الوطنية لكل من ناقش ممارسة يعتقد بأنها خاطئة.