سأنقل القارئ العزيز اليوم إلى رحاب أقدم جامعة في العالم، جامعة القرويين، ولهذه الجامعة في قلبي مكانة استثنائية لأن لها خصوصيات ومميزات خاصة، وقد بنيت في المدينة التي أسكنها، وترعرعت فيها ومنها تخرج والدي وفيها درس ولعقود العلامة الدكتور إدريس عزوزي الذي علمني على شاكلة طباع كل علمائها مبادئ التسامح وقواعد النقد وأصول الدين الصحيح. وما زلت أتذكر وأنا صغير السن كيف أن علماءها كانوا يجتمعون مرة كل أسبوع في بيت واحد من منهم يتدارسون علوماً شتى، ويقضون الساعات الطوال في النقاش والحوار العلمي البناء.. وقد سبق أن نشرت بعضاً من المعلومات النفيسة عن الجامعة، ولكن أهمها ما كان يكتبه عنها دائماً المرحوم العلامة عبدالهادي التازي، وهو الذي وجد شخصياً في هذه الَمعلمة حصيلة كل تاريخ المغرب بما فيه التاريخ الإسلامي والحضاري والسياسي، وعلى رغم أنه ألف عنها ثلاثة مجلدات إلا أنه كان يشعر بأنه مقصر في حق هذه الجامعة العريقة التي لولاها لما بقي الحرف العربي بالمغرب، ولما ازدهر الوجود الإسلامي بهذه الديار. وهل عرف العالم كله بلاد المغرب إلا إذا قرن باسم فاس؟ وماذا تكون فاس لو لم تكن بها جامعة القرويين؟ والمغرب، منذ القدم كان ملاذاً للاجئين والخائفين الذين اتخذوا منه وطناً ثانياً، فمنهم آلاف وردوا من الأندلس أيام الحكم بن هشام، ومنهم مئات وردوا من القيروان أيام دولة الأغالبة. وقد عني الإمام إدريس الثاني بضيوفه فخصص القطاع الشرقي من فاس للسادة الأندلسيين في ربيع الأول 192 هـ (يناير 808م) فعرف بعد ذلك بعدوة الأندلس، ثم في ربيع الثاني من السنة الموالية خصص لإقامته هو مع فريق آخر من القيروانيين الجانب الغربي. وكان في عداد هؤلاء المهاجرين الذين وردوا من إفريقية (تونس)، الذين التجؤوا إلى فاس منذ بداية القرن الثالث الهجري محمد بن عبد الله الفهري القيرواني الذي توفي بعيد وصوله، فترك ثروة طائلة لابنتيه: فاطمة ومريم، فحققتا بتلك الأموال مشروعاً ظل إلى اليوم شامخاً ناطقاً يرفع من شأن المرأة المسلمة إلى يوم الدين. وهنا مسّت الحاجة إلى مسجد جامع كبير ووقع اختيار أم البنين فاطمة على البقعة التي بني فيها عام 245هـ 859م جامع القيروانيين أو (القرويين) كما تنطق. وقد وجد المؤرخون في جدران هذه المؤسسة العظيمة، وفي كراسيها العلمية، وفي مرافقها العديدة الدالة، وفيما مر بها من رجال، وما شهدته من أحداث، وما عرفته من ظروف وصروف، وجدوا في كل ذلك فصولًا تختصر ترجمة السيدة فاطمة، وترسم الخطوط الكبرى لما يمكن أن يقال عنها... وقد قال ابن خلدون وهو يسجل مبادرة أم البنين: «فكأنما نبهت عزائم الملوك من بعدها»! وهناك عدد من أعلام الفكر الموسوي والمسيحي والإسلامي كان لعلماء فاس أثر في تكوينهم وظهورهم، من أمثال: دراس بن إسماعيل 357ه 968م وسيلفيستر 359ه 970م وأبو عمران الفاسي 430ه 1039م وابن باجه 533ه 1139م وابن العربي 543ه 1149م وابن ميمون الحاخام 567ه 1172م وابن طفيل 581ه 1185 وابن رشد 595ه 1198م وابن زهر 596ه 1200م وابن سمعون (اليهودي) 623هـ 1226 وابن بطوطة 770ه 1368م وابن خلدون 808ه 1406م وغيرهم ممن اشتهروا عبر القرون وفي كل الأمصار. وقد نجد في الوطن العربي مساجد انتشرت هنا وهناك، بيد أن هذه المساجد لم تظل باستمرار مراكز للتعليم، ففيها ما انتهت الدراسة فيه منذ وقت مبكر، وفيها ما انقطعت منه ردحاً من الزمان، لكن جامعة القرويين بفاس تختص بأنها أولًا شيدت في مدينة وضع حجرها الأساس ليس برسم أن تكون بلداً تجارياً، أو مدينة صناعية، ولكن لتكون «دار علم وفقه». ثم إن العلماء والفقهاء هم الذين كانوا يشرفون على بنائها منذ اليوم الأول. وكذلك فإن الدراسة فيها استمرت بصفة مطردة منذ الفترات الأولى، ولم تتفكك حلقاتها العلمية حتى في الأعوام التي كانت تتم فيها أعمال الترميم والبناء، وحتى عندما اتخذت دولة المرابطين عاصمتها مدينة مراكش سنة 462ه (1170م) ظل جامع القرويين مركز «إشعاع علمي». وإذا عرفنا إلى جانب هذا أن جامعة بولونيا (بإيطاليا) أسست سنة 1119م وجامعة أكسفورد (بإنجلترا) سنة 1229، وجامعة السوربون (بفرنسا) سنة 1257 إذا عرفنا كل ذلك قدرنا إذن ما أكده بندلي جوزي (ت 1942) من أن «أقدم جامعة في العالم ليست في أوروبا كما كان يظن بل في أفريقيا في مدينة فاس عاصمة المغرب».