بلا منافس ودون اعتراضات تذكر، انتخب «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، أمس الأحد، رئيساً جديداً له هو السياسي والوزير السابق بن علي يلدريم، المقرب من الرئيس رجب طيب أردوغان، ليصبح رئيس الوزراء الـ27 للجمهورية التركية. وقد ولد بن علي يلدرم عام 1955 في مدينة «رفاهيا» بمحافظة أرزينجان في منطقة الأناضول الشرقي، وبعد إكماله المرحلتين الابتدائية والثانوية في مدينته «رفاهيا»، درس الهندسة البحرية في جامعة إسطنبول التقنية لعلوم السلامة البحرية، وحصل منها على درجة الماجستير في هندسة المحيطات والعمارة البحرية، كما تلقى دراسات حول السلامة البحرية وحماية البيئة في الجامعة العالمية للعلوم البحرية في السويد، حيث أمضى عدة أشهر من العمل مع مهندسي الإدارة البحرية في الموانئ الاسكندنافية والأوروبية. وقبل ذلك عمل في المديرية العامة التركية لصناعة النقل البحري، وبعد عودته من السويد أصبح مديراً لشركة العبارات السريعة في إسطنبول (إيدو)، والتي أُنشئت لتخفيف الازدحام في وسائل النقل البري، فأقام 29 محطة للعبارات السريعة، ووسع خطوطها لتشمل كل مدن بحر مرمرة، ولتصبح أكبر شركة تجارية تركية للنقل البحري. ولعل أول دور سياسي بارز يقوم به يلدريم، كان منافسته في الانتخابات التشريعية لعام 2002، حيث تم انتخابه عن «حزب العدالة والتنمية» ممثلاً عن إسطنبول، ثم ما لبث أن عُين وزيراً للنقل والبحرية في حكومة رئيس الوزراء عبدالله غول، واستمر في منصبه بعد أن أصبح أردوغان رئيس الوزراء عام 2003. وخلال سنواته وزيراً للنقل أشرف يلدريم على العديد من مشاريع البنية التحتية، لاسيما الأنفاق وخطوط السكك الحديدية عالية السرعة، ومرافق الطرق السريعة، والمطارات الضخمة.. رغم الانتقادات التي وجهت له إثر انحراف قطار باموكوفا في عام 2004، ثم أضيفت له في عام 2011 حقيبة الاتصالات فأصبح أول وزير للبحرية والاتصالات والنقل. ترك يلدريم منصبه في تعديل وزاري عام 2013، لينافس كمرشح عن «حزب العدالة والتنمية» على رئاسة بلدية أزمير في الانتخابات المحلية لعام 2014، لكنه خسر أمام مرشح «حزب الشعب الجمهوري»، فتم تعيينه مستشاراً خاصا لأردوغان في يونيو 2014، ولم يخض الانتخابات النيابية التالية، في يونيو 2015، إذ قرر «حزب العدالة والتنمية» عدم السماح لنوابه البرلمانيين بأكثر من ثلاث فترات متتالية في السلطة التشريعية، لكن يلدريم ترشح في الانتخابات المبكرة في نوفمبر 2015 مستعيداً مقعده البرلماني، ليعاد تعيينه وزيراً للنقل والبحرية والاتصالات في حكومة رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو. وبعد استقالة الأخير من رئاسة الحزب، يوم 5 مايو الجاري، على خلفية خلافاته مع الرئيس أردوغان، أعلنت اللجنة التنفيذية لـ«حزب العدالة والتنمية»، الخميس الماضي، اسم يلدريم بوصفه الزعيم القادم للحزب، على أن يتم انتخابه رسمياً خلال المؤتمر الاستثنائي الثاني للحزب، أمس الأحد، وهو ما حدث بالفعل، حيث ستتم تسميته رسمياً كرئيس للوزراء وتكليفه بتشكيل الحكومة الـ65 في تاريخ الجمهورية التركية. وقد وجهت انتقادات قوية ليلدريم لم تدفع لاستقالته أو إقالته، مما يؤكد تمسك أردوغان به كلاعب احتياطي في سرك التحول نحو النظام الرئاسي، بعد استنفاد دور أوغلو الذي أخفق على ما يبدو في بداية اللعبة، فقد انتقدته الصحف التركية لما قيل عن مواقفه حين كان طالباً جامعياً يطالب بالفصل بين الجنسين، كما انتقدته بسبب صورة ظهرت فيها زوجته المحجبة منفصلة عنه أثناء غداء عمل عام 2005، فتم اتهامه بالتمييز الجنسي. أما الانتقادات الأعنف فتعرض لها حين كان وزيراً معنياً بالاتصالات، حيث دافع عن الرقابة الحكومية، قائلاً: «إذا كنت لا تقترف أي فعل غير قانوني، فلا تقلق من التصنت»، كما تعرض لانتقادات أخرى على خلفية فضيحة الفساد الحكومي عام 2013، حيث تحدثت الصحافة عن أنشطة مالية لأفراد من عائلته. لقد كان يلدريم مؤيداً قوياً لأردوغان، وربما يغدو أكثر التصاقاً به خلال المرحلة المقبلة، إذ يأتي تعيينه في المنصب الجديد لتنفيذ مشروع التغيير الدستوري الذي يريده أردوغان لتحويل النظام السياسي التركي إلى نظام رئاسي. وتعود العلاقة الوثيقة ليلدريم بأردوغان إلى الفترة التي كان الأخير خلالها عمدة لمدينة إسطنبول (1994 -1998)، حين اختاره لقيادة شركة العبارات السريعة (إيدو). كما كان أحد المقربين الذين انضموا لأردوغان لدى تأسيسه «حزب العدالة والتنمية»، وباقتراح من أردوغان أيضاً أصبح من مرشحي الحزب عن مدينة إسطنبول عام 2002، لكن في الانتخابات التالية ترشح يلدريم من مسقط رأسه في محافظة أرزينجان، ويومها تحدث عن وجود علاقات قوية له بالأكراد وبالطائفة العلوية، رداً على انتقادات تتهم حزبه بالتمييز ضد الأقلية العلوية في تركيا، حيث يأتي معظم قادة الحزب ومنتسبيه من الأغلبية السنية في البلاد. وفي انتخابات 2011 فاز يلدريم ممثلاً لحزبه، لكن هذه المرة على مستوى الدائرة الانتخابية الثانية في أزمير، وإن لم يترشح في انتخابات يونيو 2015، فقد خاض الانتخابات المبكرة في نوفمبر من العام ذاته عن الدائرة نفسها ليفوز بالمقعد مجدداً. وإلى ذلك فإن المشروعات التي أشرف عليها يلدريم، ومنها مد آلاف الكيلومترات من الطرق السريعة، وإنشاء مطار ثالث في إسطنبول، ومد جسر ثالث بين الضفتين الآسيوية والأوروبية لإسطنبول.. هي أهم الإنجازات التي يفاخر بها أردوغان، كما أنها العمود الفقري لخطط «حزب العدالة والتنمية» ومحور رؤيته المسماة «2030». بيد أن تركيا التي سيترأس حكومتها يلدريم، تشهد اختراقات متزايدة بسبب الحرب في سوريا المجاورة، علاوة على اضطرابات العراق، وانهيار محادثات السلام مع «حزب العمال الكردستاني»، كما عرف نمو اقتصادها انكماشاً يوشك أن يلتهم مكاسب السنوات الماضية، بما في ذلك تراجع سعر صرف الليرة التركية، واضطراب أسواق الأسهم، وانخفاض حجم التجارة الخارجية عقب انسداد الطريق السوري للبضائع التركية نحو أسواق العالم العربي، ثم تأزم العلاقات التركية الروسية.. بعد سنوات من الترويج لاستراتيجية «صفر مشاكل» التي طرحها رئيس الوزراء المنصرف أوغلو! رغم هذه الأزمات المتراكمة، والتي يفترض أن تشكل الانشغال الأول لرئيس الوزراء التركي الجديد، فالمتوقع هو أن يصرف يلدريم، لاعب الاحتياط الثاني، معظم اهتمامه لقضية واحدة، ألا وهي العمل على تغيير طبيعة نظام الحكم، سعياً لتتويج أردوغان سلطاناً حاكماً بلا منازع على سلطانه! محمد ولد المنى