اختلفت كتب التاريخ حول قصة إسلام الملك الغساني جبلة بن الأيهم آخر ملوك الغساسنة قبل الفتح العربي، ومع أن روايات عديدة تؤكد إسلامه ثم ارتداده، فإن رواية واحدة تؤكد أنه لم يعتنق الدين الجديد أساساً، ولكن ما حصل بعد ذلك يؤكد شيئاً واحداً هو أن العالم الذي عرفه جبلة من قبل قد تغير ولم يعد كما كان يعهده، لم يكن يسمح له بأن يساوم أو يفرض خياراته. في أقل من ثلاثين عاماً سحق العرب الفاتحون أكبر إمبراطوريتين، الفرس والروم، وتلاشت مع هذا العالم الجديد كل عوالقه وحواشيه بمن فيهم بعض الملوك الصغار الذين كانوا عمالاً عند الفرس والروم، يقومون بتأمين الشمال والشرق من غارات الأعراب، ويقضون حوائجهم ويسعون إلى إعطاء زعماء القبائل ما يغنيهم عن الغارات والنهب وقطع الطرق. كل شيء لحظتها كان يوحي بأن الإبحار مع المستقبل هو القرار الصحيح والصفقة الكبرى، وأن الحكمة لحظتها تقول إن عليك أن تنظر إلى ما كان وما هو حاضر، وأن ترنو إلى المستقبل، وتقلل خسائرك، وأن تتجرع المرارة، وتحتمل الإهانة، وتتكيف مع التحول الكبير الذي جعل من ملك في لحظات الغسق، أمام العدالة مساوياً لفقير لا يأبه له أحد (إن صحت القصة). يروى أن ارتداد جبلة وعودته إلى القسطنطينية، أو امتناعه -في رواية أخرى- عن دفع الجزية للمسلمين، أشعر عمر بن الخطاب بالندم والأسف، ولكنه ندم عابر وشفقة من خليفة منتصر يحكم العالم، ويوازن بين أنجع الطرق لكسب ملك عربي أسيف في لحظات الغروب، فلا مقارنة بين ندم الرجلين، لأن ندم جبلة كان مرارة يتجرع غصصها كل ساعة وحين يأوي إلى وسادته، ومع كل وافد من الرسل يحمل الأخبار من أرض الإسلام. كل هذا التلكؤ من قبل الملك الأسيف دفع ثمنه عشرين عاماً من الانتظار والتحسر، حين عرض على معاوية أن يعيده إلى الثنيَّة، المطلة على دمشق، وكانت مركز حكم أجداد جبلة، ولكن معاوية تجاهل العرض، وبعد فترة قصيرة رحل الغساني. كان عهد الغساسنة قد زال على أيدي الفرس قرابة خمس عشرة سنة، وبعد أن انتصر هرقل مرة أخرى على الفرس يقال إنه أعاد الغساسنة إلى سابق عهدهم، ولم تمض إحدى عشرة سنة حتى تهاوى كل شيء أمام المسلمين. ومع أن جبلة كان ملكاً عربياً يعرف بني جلدته أكثر من غيرهم، إلا أن تردده كان يتجلى منذ البدايات. في أثناء مواجهته للجيوش العربية وهو في صفوف البيزنطيين، وفي اللحظات التي انكشف فيها الروم، وانكسروا أمام خالد بن الوليد، أظهر جبلة ميلاً ودعماً للعرب، للأنصار والغساسنة من الأزد الذين كانوا في جيش الفتح، وقال إنه معهم لأنهم بنو عمه. ولكنه لم يمض إلى نهاية الطريق، لم يتموضع مع العالم الجديد. يقال إن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي قال أمام الفرنسيين بعد الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم 2008: «إن العالم قد تغير إلى الأبد»، تهكمت الصحافة على هذا التصريح، ووصفت ساركوزي بأنه مغرم بالكلمات الكبيرة. الحقيقة هي أن العالم قد تغير منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، وصفعنا مرة أخرى يوم الاثنين الماضي، فإما أن نكون مع المستقبل مع الحضارة، ومع القوى العظمى، ومع السلام والتعايش، وننخرط ضمن السفينة رغم كل القسوة والألم، وإما أن نبقى في أماكننا نلعق جراحنا ونندب حظنا، وعسى ألا يعيد التاريخ نفسه، ولا إخاله.