لاشك أن مع ما يواجهه الاتحاد الأوروبي اليوم من تحديات مصيرية قد زعزع قناعة كثير من أنصار المشروع القاري الاتحادي، وجعل النزعات الوطنية وحتى الانعزالية تعاود الظهور وتكتسب مؤيدين جدداً كل يوم، ولذا بات سؤال المسار والمصير يطرح نفسه اليوم بقوة على صناع القرار الأوروبي في بروكسل وفي عواصم الدول الأوروبية الكبيرة، وخاصة في باريس وبرلين باعتبارهما عاصمتي أكبر دولتين في الاتحاد الأوروبي ككل. واستجابة لهذه التحديات الجسام، وفي مواجهة كل هذه الأسئلة والهموم المصيرية يأتي الكتاب الصادر مؤخراً بعنوان: «أبداً من دون أوروبا»، ممهوراً باسمي اثنين من أبرز صناع القرار المالي، ومن ثم الاقتصادي، في الاتحاد، هما وزير المالية الفرنسي ميشل سابين، ونظيره الألماني فولفغانغ شويبله، مع كتابة كل من الرئيس فرانسوا أولاند والمستشارة أنجيلا ميركل مقدمة لهذا الكتاب، بالغ الأهمية، الذي تحول في نظر كثير من القراء إلى ما يشبه البيان أو «المانيفستو» المعبر عن رؤية باريس وبرلين اليوم لسبل الخروج من مآزق الأزمة المالية، وتسوية مشكلات الاتحاد السياسية والاجتماعية الأخرى الكثيرة. ولكن قبل أي حديث عن محتوى الكتاب نفسه، والأسئلة التي يثيرها، ربما تلزم الإشارة إلى أنه ليس تنظيراً أو جهداً تأليفياً تقليدياً، وإنما صدر في شكل حوارات أجراها مع هذين الوزيرين المخضرمين صحفيان مهنيان هما دومينيك سو وأولريخ فيكرت. أما ما يثيره الكتاب نفسه، وعلى امتداد 239 صفحة، فهو كل شيء تقريباً يتعلق بمشكلات ومآزق الاتحاد الأوروبي، بل هموم وتطلعات المواطن الأوروبي اليوم، كتداعيات الأزمة المالية في اليونان، التي أوشكت على إخراج تلك الدولة العضو من الاتحاد النقدي ومنطقة اليورو، وكذلك الدعوات لتعديل المؤسسات الأوروبية المشتركة، والدفق غير المسبوق من اللاجئين والمهاجرين على الاتحاد، ما تسبب في يقظة حساسيات وتجاذبات قديمة بين بعض الدول الأعضاء حول كيفية تقاسم عبء استضافتهم. هذا فضلاً عن أنجع الطرق لصد خطر الإرهاب، بعدما ضرب عواصم أوروبية عديدة، بما في ذلك باريس، وبروكسل عاصمة مؤسسات الاتحاد نفسها. كما لا يغفل الوزيران أيضاً، وهما أبرز مسؤولين حكوميين أوروبيين في الشؤون المالية، ما يسمى قضية الملاذات الضريبية، وتأثيراتها السلبية على الاقتصادات والنظم الجبائية في الاتحاد. وفي قراءتهما لمستقبل أوروبا يبدي سابين وشيوبله، وهما نصيران قويان للمشروع الاتحادي الأوروبي، تفاؤلاً بإمكانية تجاوز كافة التحديات المطروحة اليوم، ولكن بشرط إعادة الفاعلية للمؤسسات، واستمرار التنسيق الحثيث بين السياسات، وخاصة على محور باريس- برلين الذي ظل على الدوام ينظر إليه باعتباره القوة المحركة للقاطرة الأوروبية ككل. وأهم من هذا وذاك العمل على استعادة زخم الروح الأوروبية كقناعة وسط شعوب القارة، وحشد الجهد الإعلامي والتربوي الضروري لإقناع الجمهور العريض بالهوية الأوروبية من جديد، وأنها غير متناقضة ولا متعارضة بالضرورة كفكرة وجوهر مع الهوية الوطنية القومية الخاصة بكل أمة أو شعب أوروبي على حدة. وفي المجمل فطرح كل واحد من هذين الوزيرين مختلف كثيراً في التفاصيل والحيثيات والمنطلقات عن الآخر، ومقاربَة كل منهما تنظر إلى المشروع الأوروبي من زاوية متوافقة مع قناعاته الخاصة، ولكن الرؤيتين والمقاربتين تلتقيان أيضاً في النهاية، في هدف واحد هو ضرورة الحفاظ على وحدة وقوة الاتحاد الأوروبي كما يشير إلى ذلك العنوان «أبداً من دون أوروبا»، والعمل بكل جد وجهد لكسب رهان المستقبل لهذا الاتحاد، في وقت تزداد فيه الدعوات لتفكيكه، أو لخروج دول أساسية فيه كالمملكة المتحدة، التي ستنظم في شهر يونيو المقبل استفتاء على البقاء أو الخروج من الاتحاد. فالمهم عندهما هو تثمين وتمتين المشروع الأوروبي أولاً وأخيراً. حسن ولد المختار الكتاب:أبداً من دون أوروبا المؤلفان:ميشل سابين وفولفغانغ شويبله الناشر:ديبا بيبليك تاريخ النشر:2016