يوم الاثنين الماضي، حلت الذكرى المئة لشيء يسمى اتفاقية سايكس- بيكو، وبهذه المناسبة عقدت مؤتمرات وصدرت مقالات. كان مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو دبلوماسيين من بريطانيا وفرنسا، على التوالي، واتفقا على مخطط سري لتقسيم الإمبراطورية العثمانية المنهارة. وكانت النتيجة، بعد بضع سنوات من المخططات الإمبريالية، إنشاء العراق وسوريا والأردن ولبنان – أي قلب ما بات اليوم الفوضى الدموية التي تعصف بالشرق الأوسط الحديث. الذكرى أتاحت مناسبة للنقاش حول ما يمكن أو ينبغي فعله إزاء تلك الفوضى، عندما يتم هزم «داعش» عسكرياً. فهل ينبغي أن يحافظ العراق وسوريا على حدودهما الحالية ونظاميهما السياسيين المركزيين، ما يعني جمع السُّنة والشيعة والأكراد ومجموعات إثنية أصغر كانت في حرب بعضها مع بعض لفترات متقطعة على مدى قرون تحت خيمة واحدة؟ ثم ماذا عن لبنان، الذي أنتجت ترتيباتُ تقاسم السلطة الدقيقة والمعقدة فيه ما يبدو جموداً سياسياً مستعصياً؟ على نحو غير مفاجئ، هناك اختلاف حول هذين السؤالين. فمن جهة، هناك فريق يرى أنه لا بد من الحفاظ على العراق وسوريا كدولتين- أمتين، وذلك على اعتبار أن البلدين كانا كيانين مختلفين، ومتنافسين في أحيان كثيرة، حتى قبل وقت طويل على سايكس- بيكو، وأن شعبيهما طوّراً على مدى القرن الماضي ولاء للوطن يسمو فوق ولائهما للطائفة، وأن محاولة إعادة رسم الحدود سيتسبب في مشاكل أكثر من تلك التي سيحلها. وفي هذا الصدد، كتب الباحث بمعهد «المشروع الأميركي» مايكل روبن يقول: «ليست ثمة طريقة لتقسيم الحدود وخلق دول منسجمة، فمجرد المحاولة يعني القيام بتطهير عرقي وطائفي». هذا بينما يرى فريق ثان أنه من الجنون الاعتقاد بإمكانية توحيد أي من البلدين من جديد، ذلك أن زعماء كردستان العراق يبدون عاقدين العزم على الدفع في اتجاه الاستقلال، وإنْ كانوا مختلفين حول ما إن كان ينبغي القيام بذلك ببطء أو بسرعة. وفي هذا الصدد، كتب «مسرور بارزاني» رئيس مجلس الأمن لكردستان في مقال رأي في «واشنطن بوست» مؤخراً: «إن العراق يمثل خطأ مفاهيمياً لأنه أرغم شعوباً لا قواسم مشتركة بينها على تقاسم مستقبل غير أكيد». ومن جانبه، جعل تنظيم «داعش» من محو الحدود بين سوريا والعراق – التي تقسّم منطقتين يشكّل السنة الأغلبية فيهما - أحد أركانه الإيديولوجية المركزية. بعض الزعماء والمفكرين العرب يقولون إن على الغرب ألا يتدخل في هذا النقاش – على اعتبار أن سايكس وبيكو وأحفادهما المستعمِرين، بمن فيهم جورج دبليو. بوش، تسببوا في ما يكفي من الأضرار وزيادة، كما يقولون. هذا بينما يرى آخرون أنه لا يمكن إرساء الاستقرار في المنطقة إلا بواسطة تدخل خارجي – ليس غزواً غربياً آخر، ولكن ربما وصاية أممية، على غرار تلك التي تولت إدارة أجزاء يوغسلافيا السابقة بعد الحرب. وفي هذا السياق، يقول الناشط الحقوقي المصري باهي الدين حسن: «إن الحلول التقليدية لهذه المنطقة لن يكتب لها النجاح لأن بعض الدول ليست مؤهلة الآن لأن تتولى شعوبها إدارة شؤون البلاد». ومن جانبها، تبنت إدارة أوباما مبدأ «البقاء بعيداً» عن المنطقة. فسياستها الآن تقوم على «تحديد مصالحنا على نحو ضيق جداً والتركيز بشدة على تحقيق تلك الأهداف»، كما قال مبعوث أوباما إلى المنطقة بريت ماكجورك لروبن رايت من «نيويورك تايمز» مؤخراً. في العراق، كان ذلك يعني الاستثمار بقوة في بقاء واستمرار الحكومة المركزية ورئيس وزرائها الضعيف حيدر العبادي، على أمل أن يوفّر هذا الأخير غطاءً سياسياً كافياً لعملية إعادة البناء الأميركية لما يكفي من الجيش العراقي لاستعادة الموصل بمساعدة من الأكراد. وفي سوريا، يواصل وزير الخارجية جون كيري بدون كلل أو ملل سعيه وراء سراب حكومة «انتقالية» توحّد بطريقة ما نظام الأسد الدموي مع ضحاياه. فالدبلوماسية هي ورقة التوت التي تستعملها إدارة أوباما لتبرير رفضها دعم عمل حاسم لتنحية بشار الأسد، مع سعيها في الوقت نفسه لتشكيل قوة عربية-كردية لتحرير الرقة، التي يتخذها «داعش» عاصمة له. بيد أن عيب هذه المقاربة القائمة على تدخل الحد الأدنى هو أنها تحول دون التوصل لتوافق حقيقي حول مستقبل البلدين. فمع أن الحملة العسكرية التي تشرف عليها الولايات المتحدة تستطيع، في غضون العام المقبل أو نحوه، القضاء فعلياً على «داعش» عبر استعادة الموصل والرقة، إلا أنه لا يوجد أي مخطط واقعي لحدود الهياكل السياسية التي ستحل محله. وهذا بدوره يجعل بعض المساهمين الممكنين في الهجوم، مثل الأكراد، يشعرون بالتردد إزاء المشاركة، وهكذا، فإن رفض أوباما الانخراط سياسياً يجعل حتى أهدافه الضيقة أصلاً غير قابلة للتحقيق. خارج الإدارة، قلة من الناس فقط يعتقدون أن باستطاعة العراق وسوريا البقاء والاستقرار بشكليهما الحاليين، وعلى أقل تقدير، سيتعين على البلدين أن يصبحا دولتين فيدراليتين بشكل واسع، مثل البوسنة بعد حروب يوغسلافيا، ولكن من سيتولى اجتراح تلك الحلول، وكيف سيتم تنفيذها على أراض الواقع؟ حول هذا الموضوع، اختار الرئيس الأميركي الحالي المماطلة والتلكؤ، ما يعني أن على خلفاء سايكس وبيكو المقبلين الانتظار سنة أخرى. جاكسون ديل محلل سياسي أميركي ينشر برتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»