«المسلم الأعلى» مصطلح اخترعه العالم النفساني التونسي «بشير بن سلامة» (على غرار مقولة الأنا الأعلى لدى فرويد) في كتابه الصادر هذه الأيام بالفرنسية بعنوان «رغبة مرعبة في التضحية: المسلم الأعلى»، وقد أراد في الكتاب تقديم تفسير نفسي لظاهرة التشدد الديني المسلح الذي يستخدم الانتحار آلية للفعل والإعلام. «المسلم الأعلى» هو نموذج جديد من الفرد المتطرف الذي يعاني من عقدة الذل والمهانة، يبحث عن نمط من التدين الأقصى من خلال السلوك المتشدد الذي يفضي إلى الانتقام، عبر طقوس دامية من التضحية بالذات، طلباً للاكتمال والتسامي. وبينما يرجع «بن سلامة» جذور هذا النمط من الذاتية المريضة إلى نشأة التيارات الدينية المنظمة في نهاية العشرينيات (الإخوان المسلمون)، يُبين أن الانتقال إلى الأسلوب الانتحاري العنيف ليس سوى مرحلة طبيعية من نمو عقدة الذل والإهانة التي صدرت عنها حركات «الإسلام السياسي» التي ينفي عنها الطابع السياسي، ويعتبرها تصدر عن تصور طوبائي لا سياسي لمجموعة روحانية «طاهرة» وملتحمة هي الأمة التي تعبر عن وجودها الموضوعي في شكل الخلافة. إن هذا التصور الذي هو ردة فعل على جرح تفكك الإمبراطورية الإسلامية، يلغي أي فاعلية سياسية حقيقية وفق أدوات ومنطق العقل السياسي الحديث. والأخطر من هذا كله أن هذا المثال الطوبائي يفضي تحت وطأة الواقع وإكراهاته إلى اغتراب قاتل، بحيث يفقد المرء أي صلة بالواقع، ويتحول الحلم المتخيل إلى أداة لتدمير الذات والعالم، طلباً للتماهي مع أفق مستحيل. وكغيره من الباحثين الاجتماعيين والنفسيين الكبار الذين اهتموا بظاهرة الانتحاريين المتطرفين، ينفي «بن سلامة» أي علاقة بين الانتماء للدين الإسلامي وهذا النموذج من الراديكاليين العنيفين، معتبراً أن الرغبة في الموت، أي المطلب الانتحاري، ظاهرة تتجاوز الأصولية الإسلامية المتشددة، وإن كانت هذه الأصولية هي أكثر أشكالها التعبيرية الراهنة، نتيجة لانحسار المنابع الأيديولوجية الأخرى التي كانت تتغذى منها في الغرب، وإن كان نمو النزعات القومية المتطرفة في البلدان الأوروبية قد يفضي إلى تأجيج مسالك أخرى من الراديكالية العدمية. في فرنسا وحدها 200 ألف محاولة للانتحار سنوياً، نصفها يتحقق بالفعل، بما يعني أن سوق الانتحار ليست لها علاقة مباشرة بالانتماء الديني، بيد أن خطورة الحركات المتشددة تكمن في أنها تقدم وهم المعنى لهذا النزوع التدميري الذي هو أقرب لطقوس القرابين الوثنية من مفهوم الشهادة الإسلامي. ما يقوم به الدعاة المتشددون هو استهداف المراهقين الذين تستهويهم الرغبة في التضحية بالنفس بتحقيق ظمأهم للانتماء سلباً، هروباً من واقع لا يمكن أن يوفر لهم الهوية الذاتية المتماسكة، فيعدونهم بالمتعة المطلقة في عالم بديل حتى لو كان خارج الزمن الحاضر، هو عالم السماء الذي هو الملجأ من مآسي الأرض ومحدوديتها. عن طريق طقوس الموت الانتحاري ينشد المتطرف الراديكالي أن يخرج من ضيق الإنسانية، لكي يصبح نمطاً من «المسلم الأعلى» ذي القدرات الخارقة التي بمقدورها هزيمة «الدولة المنحرفة» و«قوى الطغيان العالمي»، وهي تصورات غريبة على الأخلاقية الإسلامية التقليدية القائمة على قيم التواضع والاعتدال في السلوك. ما يخلص إليه «بن سلامة» في تحليله المهم للراديكالية «الإسلامية» هو كونها تعبيراً عن أزمة هوية عميقة على المستويين الذاتي الفردي والاجتماعي، ومن هنا صعوبة معالجتها وتجاوزها التي لا تكون بمجرد المواجهة الفكرية، باعتبار أن التحول المعرفي والثقافي سيكون نتيجة طبيعية لتغير المجتمع نفسه. فرغم ارتفاع ضجيج التطرّف والأيديولوجيات الأصولية، يوجد إسلام تحديثي وليبرالي تعود جذوره إلى الإصلاحية النهضوية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بيد أن هذا الخطاب الذي يتشبع بقيم التنوير الحديثة لن تكتب له الغلبة إلا عندما تتغير تركيبة المجتمعات العربية الإسلامية التي تشهد اليوم في كثير من الساحات مأزق التفكك والتآكل. ما لم يقله «بن سلامة» في تشخيصه الدقيق للراديكالية الإسلامية هو أن الأزمة العميقة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية هي في منطقها العميق الدليل الجلي على فشل الطوباويات الأصولية التي تحولت إلى مشاريع للموت والانتحار، بما يفسح المجال لأمل جديد، قد يكون ذلك الذي قصده الشاعر الألماني المعروف «هولدرلين» بقوله: «بقدر ما يتسع الخطر يتزايد أيضاً ما يجلب الخلاص».