أنا مواطن سوري هاجر من بلده قبل أن يُهَجّر، غادرت البلد عام 1975، وخوفاً من الاعتقال في المطار فقد خيل إلي أن الخروج من البلد عن طريق الحدود اللبنانية أكثر أمناً، وهو وهْم فيما أظن، ولكن خرجت بهذه الطريقة ليطمئن قلبي. وحين أصبحت فوق التراب اللبناني فرحت كثيراً، وأظن أنني كنت محقاً، لأن مكوثي في ديار «البعث» كان سيكلفني حبساً مديداً، وحرماني من حياة عائلية سعيدة، ولربما قضيت نحبي إن لم يكن بالسل، فبالجذام والجرب وسوء التغذية! ومن يدري فغابة «البعث» خطيرة، كما حصل لعشرات الآلاف من خيرة الشباب السوري. انطلقت في رحلتي إلى ألمانيا الغربية، وكانت الشرقية في قبضة الشيوعيين، وهناك تخصصت في الجراحة، ثم غادرتها بعد ثماني سنوات ونصف السنة. وفي تلك الرحلة أدركت الشوط الذي قطعه الألمان للوصول إلى أرض الحرية والتخلص من الفاشية. وكثير من زملائي آثر البقاء هناك. أما أنا فكان الحنين الكاذب يشدني إلى الشرق المنكود. وهكذا استبدلت جنات ألمانيا بظروف الشرق الصعبة وجو من العمل ليس بذلك المريح، فالعبرة ليست في توافر الأطباء وبناء مشافٍ عصرية، بل روح الطب، وهو أمر ثقافي صعب المنال طويل الرحلة. بعد 17 عاماً من الغيبة وتحت إلحاح زوجتي في العودة للوطن قررت العودة، وكانت المفاجأة أكبر من التوقع. استقبلت على الحدود الفوضى والوسخ والذلة والقلة والرعب، فالأمن السوري يخترق مسامات التنفس حيثما توجهت وتنفست. رجال يدخنون بقرف، بملابس نصف قذرة، نصف مكوية، يحدقون بشراسة في الغادي والرائح. ومن يدخل ذلك السجن الكبير للولوج إلى مملكة الصمت، عليه أن يخلع على الحدود كرامته وعقله عن اليمين والشمال عزين، ويدخل معقوفاً منحني الظهر بزاوية تسعين درجة، وكأن هذه هي مملكة الأسود ونحن خرفان ومعز، لحين موعد افتراسنا. كان الحنين الكاذب يضرب بذكرياته كياني. حنين إلى صرير جنادب الليل، ونقيق الضفادع، ورائحة التراب المعجونة بالذكريات، فأنا غادرت البلد حين كنت في 28 من العمر. بقيت أتردد على مملكة الصمت والرعب والتيه والفقر والذلة سنوات معدودات، ومع كل دخول مراجعة فرع أمني! تذكرت محيي الدين لاذقاني الذي سألهم في المطار كم دولة تحكم البلد؟ دخل مرة ولم يرتكب حماقتي، فخرج وهو ينفض غبار البلد عن حذائه. وكان مصيباً في رأيي! يا قوم قلتم تسوية الوضع وقد سوي، فلماذا المراجعات لهذه الوجوه القاسية المتوجسة؟ والانتظارات المملوءة بالهواجس؟ كانت الحفلة الأخيرة غريبة ومضحكة، حيث استدعيت لفرع الأمن السياسي في الفيحاء، لأن امرأة اختلفت مع زوجها فكتبت تقريراً عن عشرات من الناس الذين كانوا يزورون زوجها في ألمانيا قبل عشرين سنة!له.. وكانوا يذكرون الرفيق القائد بالسوء.. يا ستار! قال لي المحقق وهو ينفث دخانه فوق رأسي: كان بإمكاننا اعتقالك من المطار! قلت هذا حق، نعم بإمكانكم. بقيت كل إجازتي أقضيها في مراجعة هذه القضية التي لا تحتاج إلى مراجعة. إنهم يبحثون في القضايا مهما تقادمت، فلعلهم يكتشفون فيها مؤامرة خفية تضر بسلامة الرفيق الأبدي! كل إمكانات البلد مسخرة لحماية هذا الهدف. هل نفهم حجم الانفجار الحالي في سوريا؟ بعد تلك الزيارة قررت أن لا مكان لي في ذلك البلد.