تقوم الجامعات في بلادنا بمحاولات عدة لنشر التراث القديم، فتعيد طبعه ولا توزعه، وقد تعيد طبع المطبوع منه، والذي قد لا يكون أفضل ما في القديم، دون أن تدرسه. كما تحاول رفع مستوى التعليم الحديث، وإرسال البعثات، وإحضار المراجع، وعلى الجانب الآخر نقوم بإنشاء الجامعات الإقليمية، أبنية ضخمة رائعة زاخرة بالمعامل والأجهزة، وذلك كله يتطلب إمكانيات مادية هائلة، قد لا تقوى الدولة على تحمل أعبائها، وخاصة لو كان جزء من تكاليفها قد دُفع بالعملات الصعبة. وعلى رغم أن ذلك واقع بالفعل، فإن التعليم جزء من السياسة القومية، لا يقل أهمية عن توفير القمح. فالتعليم استثمار بشري، وليس جزءاً من الخدمات كالصحة والنظافة.. وإذا كنا نقاسي من غياب المتخصصين، أو من انخفاض مستوى التأهيل، وبالتالي من نقص الإنتاج، أو من انخفاض مستواه، فإن السبيل إلى تفادي ذلك هو الاستثمار على أوسع نطاق في التعليم. وكثيراً ما تساهم الشركات والمؤسسات ومراكز الأبحاث في البلاد المتقدمة في تكوين الكادر البشري اللازم، فتعطي الجامعات الأموال اللازمة للأبحاث، وتعطي الدولة القدر الكافي لإرسال البعثات، وذلك لأن المؤسسات الإنتاجية ستستفيد كلما كان الكادر المؤهل لديها على مستوى عالٍ من الكفاءة. فما تعطيه أولًا كمساهمة في التكوين، تحصل عليه بعد ذلك خبرة، وزيادة في الإنتاج. وإذا أخذنا في الاعتبار بعض مظاهر الاستهلاك في حياتنا اليومية، فما أجدر ميزانية التعليم بأن لا تقل عن أي ميزانية أخرى، وبيد الإرادة السياسية أخذ هذا القرار، وهو استثمار طويل الأمد قد لا تبدو نتائجه في الحال كاستثمار المشروعات القومية الكبرى. وإذا أتينا للعلوم الإنسانية، فإننا نجد أن الطابع القومي فيها أظهر وأوضح منه في العلوم الطبيعية والرياضية، ففي كلياتنا النظرية، كثيراً ما تعرض معظم النظريات القديمة والحديثة في العلوم الإنسانية نظرية ومنهجاً، وقد نتحرج من التطبيق المباشر على واقعنا الخاص. ودون أي رغبة في التقليل من أهمية الجوانب النظرية في العلوم الإنسانية وأهمية مناهج البحث بها، إلا أن واقعنا المباشر أصبح مرئياً بكل المناهج الممكنة الحسية منها والعقلية، التي تقوم على الملاحظة المباشرة أو على التحليل الإحصائي أو المناهج الصورية الخالصة. إن الجانب النظري في العلوم الإنسانية مشكلة، لأنها ما زالت علوماً حديثة، ولكن الجانب التطبيقي أكثر وضوحاً. فمثلًا في علم النفس يمكننا توجيه أبحاث طلابنا، بعد إعطائهم الوسائل اللازمة لذلك، نحو تحليل بنائنا النفسي المعاصر. وعلى هذا النحو، يتحول علم النفس إلى بحث في الشخصية القومية، ويؤدي إلى التعرف على الذات، ويعمل على استكشاف النفس، ويساعد على التعبير عن المضمون النفسي الذي تظهر فيه التراكمات القديمة حتى تمكن تصفيتها. ويمكننا في علم الاجتماع أيضاً تحليل مشاكلنا التي نعاني منها معاناة مباشرة، مثل العلاقات الاجتماعية. بدلاً من عرض مدارس ومشاكل علم الاجتماع كما هي موجودة في التراث الغربي المرتبط أشد الارتباط بالبيئة التي نشأ فيها، وبتوالي وجهات النظر التي طرأت على هذه البيئة. وفي الاقتصاد ندرس مثلاً النظريات الاقتصادية القديمة والحديثة، والمذاهب الاقتصادية التي تتبعها البلاد المتقدمة، فإذا أتينا للبلاد النامية جعلناها موضوعاً خاصاً فرعياً، مع أن الاقتصاد كله يمكن إعادة النظر إليه من خلال اقتصادات البلاد النامية. وحالياً نجد في البلاد المتقدمة ظهور كليات ومعاهد بأكملها من أجل دراسة اقتصادات البلاد النامية، أفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية، فالنمو الآن هو الموضع الرئيسي في البلاد المتقدمة. * أستاذ الفلسفة- جامعة القاهرة