يعد انتخاب الشعب البريطاني صادق خان المسلم عمدة للعاصمة لندن مؤشراً قوياً على أن «الإسلاموفوبيا» لم تضلل كل الناس في الغرب، على رغم الدفع القوي الذي شهدته على مدار السنوات الفائتة، وتحديداً منذ حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وحتى هذه اللحظة، والذي جعل كثيرين في الدول الأوروبية والولايات المتحدة وغيرها، بمن فيهم كُتاب وباحثون وساسة، يسوّقون ويدعون ويروجون لـ«رهاب» من الإسلام والمسلمين، من دون تمييز بين متطرفين وإرهابيين يقاومهم سائر المسلمين وبين عموم من يؤمنون بالإسلام ديناً. وقد فاز خان، مرشح حزب العمال، على منافسه مرشح حزب المحافظين «زاك جولدسميث»، بعد إعلان النتيجة الرسمية ‏وحساب التفضيل الثاني للأصوات بفارق ملموس، حيث حصل خان على مليون و310 آلاف و143 ‏صوتاً، بينما حصل «جولدسميث» على 994 ألفاً و614 صوتاً، وهذه النتيجة في حد ذاتها تحمل دلالات مهمة، إذ إن أغلب الناخبين لم يتوقفوا أمام ديانة خان، بقدر ما توقفوا أمام ملاءمته للمنصب وصلاحيته وخبرته السياسية، فصوتوا له عن اقتناع، ليكسروا بهذا احتكار حزب المحافظين لهذا المنصب المهم في السنوات الثماني الأخيرة. هذه الخطوة نابعة من إيمان كثيرين من بين البريطانيين بحقوق المواطنة، وهي تعلو لديهم على أي مؤثرات سلبية تخلقها الهويات الدينية والعرقية والثقافية والجهوية والطبقية، والتي طالما ألقت بظلال سلبية كثيفة وقاتمة على تعبيرات وتصرفات عدة في دول ومجتمعات أخرى لا تزال تمارس التمييز والاضطهاد على نطاق واضح وفاضح. إن عمدة لندن الجديد رجل له خبرة سياسية، فهو قيادي مهم في حزب العمال وعضو في البرلمان، وليس شاباً غراً منتمياً إلى الجماعات والتنظيمات الدينية السياسية التي تناصب الغرب العداء، رغم أن أفرادها يعيشون هناك، وينعمون بالحرية والرفاه. وهو في هذه الناحية مثل شخصيات مسلمة وعربية عديدة تقدمت إلى مناصب رسمية وبرلمانية مهمة في عدد من الدول الأوروبية في السنوات الأخيرة، وهذا دليل على أن من يندمج في هذه المجتمعات، ويحترم دساتيرها وقيمها وثقافتها وظروفها السياسية والاجتماعية، بوسعه أن يتقدم إلى أعلى المواقع والمناصب، حتى لو كان مسلماً يعيش في قارة ينظر إليها باعتبارها معقل المسيحية في العالم. ولننظر كيف تعامل خان مع فوزه الكبير، لنعرف كم هو رجل حصيف، وكم امتلأت نفسه بروح الديمقراطية ومقتضياتها، فها هو يعد بأن يكون عمدة يمثل جميع ‏أبناء العاصمة البريطانية، ويقول «النتيجة تشعرني بالتواضع، والفخر في الوقت نفسه، لأن أبناء لندن قدموا الأمل على الخوف، والوحدة على الانقسام». ولننظر أيضاً في تصريحات منافسه التي تبين أن الرجل، على رغم أنه قد استغل كون خان مسلماً في الدعاية المضادة، كيف يسلم بالنتائج التي أقرها شعب لندن، فهو شكر مئات الآلاف من ‏الأشخاص الذين انتخبوه، ووضعوا ثقتهم فيه، وقال «اليوم بالفعل أشعر بخيبة أمل بسبب النتيجة، ولعدم قدرتي على تنفيذ ‏برنامج أشعر بالفخر به»، فهو هنا يحمّل نفسه المسؤولية، لأنه لم يبذل الجهد الكافي ليقنع الجمهور بانتخابه، ولا يلوم على الناس لأنهم اختاروا رجلًا مسلماً عمدة لهم، في وقت تنهال فيه الكلمات والعبارات والصور واللقطات التي تكرس صورة سلبية للمسلمين في المجتمعات الغربية، لاسيما بعد الحوادث الإرهابية التي شهدتها باريس وبروكسل، ومن قبلهما مدريد ولندن ذاتها. إن على الجاليات العربية والإسلامية في المجتمعات الأوروبية أن تعتبر وتتعظ من انتخاب عمدة لندن مسلماً من أصل باكستاني، وأن تطمئن الأوروبيين إلى أنه ليس كل العرب والمسلمين على شاكلة «القاعدة» و«داعش»، وأن بوسعهم أن يمثلوا قيمة مضافة إلى الدول الغربية التي يحملون جنسياتها أو يجدون فيها فرصاً للعمل أو الدراسة، أو يتمتعون بوضع أفضل لحقوق الإنسان والحريات الفردية والعامة في رحابها.