أعلن رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم، رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو استقالته من زعامة حزبه ومن رئاسة الحكومة، احتجاجاً على ترتيبات شريكه السياسي الرئيس أردوغان الذي يسارع الخطوات لنقل تركيا من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي. وبانسحاب أوغلو من المشهد السياسي (وإنْ كان بقي في الحزب)، بعد خروج الرئيس السابق عبدالله غِل، تكون طبيعة التركيبة الأيديولوجية السياسية لنظام الحكم التركي قد تغيرت نوعياً. ومن دون الرجوع إلى التاريخ السياسي العاصف لتركيا الحديثة الذي تمحور حول صراع قوي بين المؤسسة العسكرية المتحالفة مع النخب العلمانية الأتاتوركية والمجتمع الأهلي التقليدي الذي شكل البيئة الحاضنة لنمط من الإسلام السياسي متعدد المشارب والتوجهات، فإن تأسيس حزب «العدالة والتنمية» عام 2001 من رحم التجربة الأربكانية كان خطوة نوعية في إعادة قولبة العمل السياسي للتنظيمات التي تستند إلى مرجعية إسلامية (وإنْ كان الدستور التركي يفرض عليها التقيد بمقاييس العلمانية). لم يكن الحزب عند تأسيسه كتلة متجانسة بل ضم روافد عديدة من بينها الخط الأربكاني، والتيار الصوفي العريض المتمحور حول تركة الزعيم الصوفي «سعيد النورسي» وخليفته الحالي «فتح الله غولن»، وبعض اتجاهات التيار القومي التركي المنحدرة من أحزاب اليمين التي أنهكتها موازين الصراع السياسي. واشترك ثلاثة رفاق في تأسيس الحزب الجديد، تجمع بينهم أصول اجتماعية متقاربة، وإنْ اختلفوا في الخلفيات الثقافية وطبيعة التوجهات العملية، هم: السياسي الشعبوي المصارع والخطيب «أردوغان»، والاقتصادي المعتدل المرن «عبد الله غِل»، والمفكر المخطط «أحمد داوود أوغلو». لم يكن للإسلام السياسي التركي في السابق وجوه فكرية مهمة، وكان استناد أحزاب أربكان (الرفاه والفضيلة والسلامة) على نمط من الكتابات البسيطة، مع ملاءمتها مع السياق التركي، وقد أراد أوغلو سد هذه الثغرة الفكرية عبر الدعوة للخروج من براديغم «الإسلام السياسي» في اتجاه دعاه بالليبرالية المحافظة التي تجمع بين قيم التعددية الديمقراطية الغربية والقيم الحضارية والمجتمعية للشخصية التركية. ولا شك أن هذا التوجه مكّن الحزب من توسيع قاعدته الانتخابية، فحاز ثقة بورجوازية الأناضول المحافظة وتحالف مع جماعة «الخدمة» (جماعة غولن) التي ترفض أدلجة وتسييس الدين، ولها حضور قوي في المجتمع الأهلي، وفي مؤسسات الدولة من قضاء وشرطة وإدارة. ومع أن أردوغان وغل توليا دفة الحكم، فإن الأفكار الاستراتيجية لأوغلو التي بسطها في كتابه «العمق الاستراتيجي» هي التي صاغت التوجهات الاستراتيجية لتركيا منذ وصول حزب "العدالة والتنمية" للسلطة مطلع العقد الماضي إلى 2012 مرحلة انفراد أردوغان بالسلطة. رؤية أوغلو تتلخص في تحويل تركيا من دور السياج العازل بين أوروبا الغربية والفضاءين الآسيوي والشرق أوسطي إلى دور المحور الواصل بين المجالات الثلاثة التي انزاحت الحدود بينها بعد نهاية الحرب الباردة: أوربا والشرق الأوسط والعالم القوقازي، بحيث تكون تركيا القوة الإقليمية الرئيسة التي بمقدورها وحدها من خلال قوتها الناعمة وتفوقها الاقتصادي أن تضطلع بحفظ التوازنات الضرورية في هذا المحيط الملتهب. ومن هنا يتعين على تركيا وفق هذه الرؤية أن تكون علاقاتها حسنة وقوية بدوائر جوارها، وأن توسع دائرة نفوذها من خلال حركيّة التجارة والاقتصاد التي هي أساس ديبلوماسية العصور الجديدة. مع موجة «الربيع العربي» وانفراد أردوغان بالحكم، بدأت المعادلة تتغير تدريجياً، فتخلت تركيا عن السياسة التي كان «غِل» يتبناها خلال تصدره المشهد السياسي، لكن اضطر للانسحاب لصالح رفيقه القوي (أرودغان) الذي راهن على زعامة عالم عربي جديد تحكمه تنظيمات «الإسلام السياسي». وبينما أعلن أردوغان الحرب على جماعة «غولن» التي كانت سنده في تقليم أظافر المؤسسة العسكرية، تردت علاقته بالمجتمع المدني. ما يعنيه خروج أوغلو من المشهد السياسي التركي، هو انهيار التجربة التي حاول منذ التسعينيات صياغتها فكرياً ونظرياً، وأسهم في إخراجها للتطبيق منذ وصول حزبه للسلطة، بما يعني هزيمة الأكاديمي البارع الذي يطلق عليه في بلاده تسمية «كسينجر التركي».