ثمة الكثير مما يُبهج في فوز صادق خان رئيساً لبلدية لندن، كما أن ثمة الكثير مما يثير المخاوف إزاء مستقبلات تعايش المسلمين في الغرب واتجاهاته. أول ما يُبهج هو علو قامة تعددية وكوزمبوليتانية هذه المدينة العريقة، التي لم تنحن أمام هوج تيارات العنصرية والإسلاموفوبيا التي عصفت بأوروبا في السنوات الأخيرة. لندن التي ظلت تكبر وتتوسع تعددياً وتعايشياً إلى أن تساوى فيها عدد من ينحدر من أصول أنجلوساكسونية مع عدد من ينحدر من أصول أخرى تقدم صفعتين بذات القوة لطرفين متناقضين: صفعة في وجه العنصريات الأوروبية وتيارات اليمين المتطرف التي اشتغلت على تخويف وإرهاب شعوبها من المسلمين، وصفعة قوية أخرى في وجه الجماعات الإسلاموية وتيارات التعصب الديني التي اشتغلت بدورها على اختزال الغرب وأوروبا بتعريفات «الكفر» و«الكفار» وتسويغ الإرهاب ضد المدن والمدنيين هنا وهناك، من باريس إلى بروكسل وغيرهما. يُبهج كثيراً أن أطروحة التعددية الثقافية التي قام عليها الجزء الأعرض من التسييس الاجتماعي في أوروبا وأميركا الشمالية تستنشق الآن دفقة هواءً صحياً بعد سنوات من الهجوم المُستمر عليها من قبل سياسيين ومفكرين وحتى مؤيدين سابقين لها، انشقوا عنها، والتعددية الثقافية، وخاصة في تعبيرها الأنجلوسكسوني، ونماذجه البريطانية والألمانية والهولندية الأبرز في أوروبا، تعني الاحتفاء بالتعدديات الدينية والإثنية وعدم مطاردتها أو محاولة إنهائها عبر برامج الإدماج القسري في ثقافة وقومية عليا موحدة، كما حاولت فرنسا طيلة تاريخها (خلال وبعد حقبة الاستعمار). وأنصار التعددية الثقافية، وباختصار، يجادلون بأن إفساح المجال للثقافات والأديان والطوائف والإثنيات المختلفة كي تعبر عن ذواتها في سياق تعددي وليبرالي واسع سيجرجرها إلى تيار الوسط العام، ويقلم تطرفاتها الدينية أو القومية من دون تدخل الدولة والسياسة، مُبقياً على ما هو تعايشي فيها، ونابذاً لما هو كريه فيها. السياسة البديلة، كما يشير أنصار التعددية الثقافية، تعني إجبار الأقليات والجاليات على تبني ثقافة وممارسات البلد والمجتمع المُستضيف، بالقسر المباشر أو غير المباشر. وهذا يقود إلى استفزاز ردود فعل دفاعية وهجومية قصوى عن الهويات والأديان بما ينعش جوانب التطرف فيها ويقوي متطرفيها، وهكذا وعوض أن تتدحرج الغالبيات نحو الوسط العام، تتشتت إلى هوامش التطرف بعيداً عن الضوء أو تحت الأرض. تمتلك التعددية الثقافية تماسكاً نظرياً تسنده وقائع وتواريخ طويلة، مقارنة بنظرية الإدماج الثقافي الفوقي التي يبرز النموذج الفرنسي كمثال رئيس لها، وهي وقائع تعود بعيداً إلى حقب الاستعمار البريطاني والفرنسي وآليات اشتغالهما في البلدان المُستعمرة. لم يرد البريطانيون تحويل الشعوب والمجتمعات التي استعمروها إلى بريطانيين ثقافة وديناً وممارسة، بل اهتموا بولاء الجميع السياسي للعرش البريطاني والخضوع لسيادته. على الضد من ذلك، تملك الفرنسيون هاجس فرنسة الشعوب والمجتمعات التي استعمروها وتحويلهم إلى جزء من «فرنسا الأم» وثقافتها ولغتها، بالطوع تفضيلاً وبالقسر إن لزم الأمر. نقاد التعددية الثقافية قالوا ويقولون بأنها توفر البيئة الخصبة لتوالد «غيتوات» الانعزال بعيداً عن الوسط العام، وهناك تترعرع كل أنواع التطرف الديني والثقافي، وتنتج في نهاية المطاف خليطاً من التجمعات السكانية المتناقضة، والتي لا يجمعها ناظم ثقافي أو مسلكي أو اجتماعي مُوحد، وعوضاً عن التعايش المُفترض التي تتأمله التعددية الثقافية فإن ما يتنامى في الواقع كراهيات حقيقية مردها تواصل التباعد الثقافي والانعزال بين شرائح ومكونات يُفترض أنها تابعة لمجتمع أو وطن واحد، وهذا الأخير، أي الوطن، والولاء له، هما الضحية الأولى لفشل التعددية الثقافية، بحسب نُقادها، ذلك أن من تربوا في أحضان الجاليات الثقافية والدينية المعزولة عن الوسط العريض للمجتمع المُضيف لا يشعرون بأي ولاء للبلد الذي ولدوا فيه ويحملون هويته وجنسيته، بل هم مستعدون لتفجير أنفسهم فيه وضده. وفر الإرهاب الإسلاموي، بدءاً من تفجيرات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك إلى تفجيرات مارس 2016 في بروكسل، كل العتاد التنظيري الذي احتاجه نقاد التعددية الثقافية، سواء من انطلق بالنقد من موقع الحرص والإنصاف، أو أولئك المدفوعين بعنصريات دفينة انتهزت تواتر الأحداث وإرهابها وسعرت الخطابات المعادية للمسلمين المباشر منها أو المركب. على خلفية عريضة كهذه إذن، ومع الاختزال المُخل، يأتي نجاح صادق خان، مُقدماً أحد أمثلة نتاج التعددية الثقافية في نسختها البريطانية، وهناك إذن، شرائح مهمة من المسلمين تدحرجت بالفعل نحو الوسط العام للمجتمعات التي تعيش فيها وانخرطت فيها. صحيح أن نسب عدم الانخراط وعدم الاندماج هي الأكبر، لكن الخلاصة لا تؤشر على فشل ذريع للتعددية الثقافية حتى لو لم تؤشر على نجاح كبير لها. إذن يجلس اليوم صادق خان على كرسي رئاسة بلدية لندن في وسط سياقات تحف بها الشكوك والمخاوف، ومنظوراً إليه بمتابعة لصيقة، وبأمل، وبتربص، من قبل جهات عديدة. يتأمل منه أنصار التعددية الثقافية أن يقدم مثالًا يعزز من مواقع النظرية التي تعرضت للاهتزاز جراء الضربات المتلاحقة من الواقع المتواتر، أو التنظير الناقض لها والذي لم يتوقف. ويتربص به ناقدو التعددية الثقافية وكارهو المسلمين والأجانب سواء في بريطانيا أو الغرب عموماً ليقولوا إن ولاء «هؤلاء الأجانب» لبلدانهم مستحيل التحقق طالما أنهم يتميزون عن غالبية المجتمع المضيف بهوية دينية مغايرة، وإلى جانب هؤلاء وأولئك، هناك مسلمو بريطانيا الذين تتنازعهم تيارات وضغوطات وتأثيرات إعلام اتهامي، وقليل من هؤلاء ومعهم متطرفون أكثر خارج بريطانيا يرون في خان مجرد عميل بريطاني لا ينتمي أصلًا إلى الإسلام! وهؤلاء سيتصيدون كل كلمة وفعل يقوم به خان ليقولوا إنه لا يخدم الإسلام والمسلمين من موقعه، بل يقبل بأن يكون أداة في يد «الأعداء»، لكن هؤلاء قلة قليلة، والأهم منهم الغالبية الكاسحة، ومن جهة هذه الغالبية سيُثقل كاهل السياسي الصاعد بحجم الآمال والتوقعات المرصوفة على كتفيه، ذلك أنها تقدم هويته الدينية على هويته البريطانية الأوسع. يريد منه أفراد الغالبية، الخائفة والمتوترة في معظمها، أن «يمثلهم» وينطق باسمهم ويطالب بـ«حقوقهم»، ويغير من الصورة الإعلامية عنهم، متغافلين عن كونه رئيساً لبلدية لندن البريطانية وملايينها التسعة متعددة الأديان والهويات والإثنيات. وثمة في الخلفية البعيدة هاجس لا يمكن إغفاله يأتي من خيبة الأمل العريضة التي غرق فيها مسلمو العالم بسبب باراك أوباما وفترة رئاسته الأميركية، وهو هاجس ربما يدخل حسابات خان. صحيح أن هناك فوارق كبيرة جداً في الحالتين والمشهدين، لكن الخشية من تخييب آمال ملايين من الناس داخل وخارج بريطانيا قد تكون واحدة من حسابات رئيس البلدية الجديد. لا يستطيع خان وهو في الموقع الأبرز في المدينة الكوزموبوليتانية الأهم في العالم، والأكثر تعددية وتعايشاً، ولا يجب، إلا أن يكون ما بعد هوياتي وما بعد ديني، وهذه هي الطريق الأكثر رسوخاً وضماناً ليس فقط لتعزيز ثقافة التعدد والتعايش في بريطانيا، بل وأيضاً لخدمة مسلميها و«أجانبها»، وإقناع كثير منهم بأن الانخراط العريض في المجتمع هو الوسيلة الأنجع للدفاع عن النفس، وليس الانعزال والتقوقع. ولا يعني هذا مطالبة خان بخلع هويته جانباً وتأكيد ملكيته أكثر من الملكة نفسها، فلا هذا ممكن ولا مطلوب، كما أن فائدته عكسية حتى لو قام به. يُساق هذا الكلام ببرود أعصاب ومن موقع الكتابة والتنظير، فيما وقع السياسة والأحداث قد يتحول إعصاراً يجرف كل الحسابات الوئيدة والتنظير المُسبق، لكن بكل الحالات يبقى أن التحدي الكبير الذي يواجهه صادق خان يتمثل في رسم توازن دقيق مُستل من دقة معادلات الكيمياء التي ينقلب الناتج فيها إلى عكس ما يُراد لو أن نقطة واحدة من هذا المكون أو ذاك زيدت أو أنقصت. --------------- كاتب وأكاديمي عربي