في بعض كتاباتي، سلطت الضوء على الطريقة التي استوعبت بها الولايات المتحدة وأدمجت، على مدار قرون، موجات لا حصر لها من المهاجرين من كل حدب وصوب، وحولتهم، في فترة قصيرة، إلى أميركيين، وقارنت ذلك بموقف الأوروبيين الذي لا يوفر في كثير من الأحيان الفرص ذاتها للتقدم والاندماج. وأشرت أيضاً إلى أن المواطنين الأميركيين الجدد لا يحصلون على هوية جديدة فحسب، ولكن أيضاً ضمن عملية استيعاب المجموعات المتنوعة الكثيرة التي جاءت إلى شواطئنا، تغيرت أيضاً الهوية الأميركية ذاتها. ومرة أخرى، لا ينطبق ذلك الوصف على أوروبا. وهذه القدرة الاستيعابية والتحويلية للمهاجرين الجدد، هي من بين السمات المحددة للولايات المتحدة الأميركية. وهي عملية أتاحت فرصاً كبيرة لمجموعات متنوعة قادمة كي تتصدى للمزدرين الكارهين والإقصاء المؤلم الذي تم استقبالهم به، وفي غضون جيل، وجدوا مكانهم في التيار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. ولعل هذه بالتحديد هي الميزة الفردية التي جعلت تجربة المهاجرين العرب والمسلمين إلى أميركا أكثر اختلافاً مقارنة بما واجهه مواطنوهم الذين هاجروا إلى أوروبا. وخلال القرن الماضي، استقر ما يزيد على مليون عربي، من المسلمين والمسيحيين، وزهاء ثلاثة أرباع مليون مسلم غير عربي كمهاجرين في الولايات المتحدة. وعلى عكس نظرائهم في أوروبا، لم يتم حصارهم في أحياء فقيرة، ولم يصبحوا مواطنين من الطبقة الدنيا. وفي غضون جيل، عاش الباعة المتجولون اللبنانيون وعمال الحديد السوريون والحمالون والعمال اليمنيون وصغار التجار الفلسطينيين والمصريين والعمال المغاربة تجربة صعود اجتماعي واقتصادي استثنائية كانت ممكنة في أميركا. ولم يبقوا في الوضع الاقتصادي المتدني، لأنهم استغلوا تلك الفرص التي أتاحتها لهم الدولة التي تبنتهم. وهذا حقيقي تماماً، ولكنّ ثمة أمراً مهماً لابد من الإشارة إليه، وهو يرسخ تشابهاً أميركياً مع أوروبا. والحقيقة أن هناك وجهاً خفياً للقصة الأميركية. فالمهاجرون الجدد لا يجدون أنفسهم منعزلين في «أحياء فقيرة للمواطنين من الطبقة الدنيا» لأن هناك بالفعل أحياء موجودة في أميركا تتألف من الأميركيين الأفارقة واللاتينيين والأميركيين الأصليين. ونتيجة لذلك، عندما يصل المهاجرون الجدد، يمكنهم مباشرة الانضمام إلى هذه الفئات المقموعة تاريخياً، ومن ثم يتدرجون عبر السلم الاقتصادي والاجتماعي. وهذا ليس خطأ المهاجرين، وإنما هي الطريقة التي أعدت من أجلهم. وهذا هو الخزي والحقيقة التي ينبغي ألا نتجاهلها في أميركا. وقد ولدت أميركا في خطيئة أصلية، أو بالأحرى ثلاث خطايا مختلفة: هي الإبادة الجماعية الوحشية والتطهير العرقي للشعوب الأصلية، وترسيخ العبودية التي فرضت على الأفارقة، واحتلال وإخضاع الأراضي التي يتحدث أهلها بالإسبانية. وقد دأبت على الخوف من أن أشاهد مقالات تقارن تجارب المسلمين المهاجرين المتأخرين في الولايات المتحدة بنظرائهم في المملكة المتحدة أو فرنسا، فهي ليست متشابهة على الإطلاق، ذلك أن الجيل الثالث من العرب المنسلخين الغاضبين والعاطلين عن العمل في ضواحي باريس الفقيرة ليس له نظير في مجتمعات الأميركيين العرب داخل الولايات المتحدة. ومن الممكن أن يوجد تشابه في الأحياء الفقيرة التي يقطنها اللاتينيون أو الأفارقة الأميركيون المكافحون في كثير من المدن الأميركية. ومثل ضحايا دول شمال أفريقيا أو جنوب آسيا التي تعرضت للقمع الاستعماري، ممن ذهبوا إلى فرنسا أو المملكة المتحدة بحثاً عن فرصة، وأصبحوا حانقين بعد أن وجدوا البطالة والتمييز المنهجي، وجد أيضاً مواطنو الجنوب الأميركي أو الأحياء اللاتينية الذين فروا من الفقر في أميركا الوسطى، أحلامهم تتبدد في الولايات المتحدة. ومثل مهاجري الطبقة الدنيا في أوروبا، توجد بين الأميركيين من أصحاب الأصول الأفريقية واللاتينية أعلى نسبة من الفقراء والعاطلين والسجناء. وهم يمثلون المجتمع الأميركي برسالة تذكير مزعجة عن الفصول المنحطة في تاريخنا التي نفضل أن نتجاهلها أو ننساها. ومثلما أخفق البريطانيون والفرنسيون في الاعتراف والتكفير عن تبعات سلوكياتهم المخزية في جنوب آسيا والعالم العربي، لم يتعامل الأميركيون أبداً بفاعلية مع التأثير المدمر والصدمة الدائمة التي نزلت بالشعوب الأصلية في هذه الدولة وضحايا العبودية، وكذلك ضحايا غزواتنا الاستعمارية للأراضي جنوب أميركا. وعلى الرغم من ذلك، في كلا المثالين، لا يزال ضحايا تاريخنا الذين يعيشون بيننا ينتظرون أن يكونوا مشاركين كاملين ومعترفاً بهم في مجتمعاتنا. وفي حين نسعى في بعض الأحيان إلى تبرئة أنفسنا بالإشارة إلى نجاحات بعض مَن أحرزوا تقدماً على طريق إسقاط الحواجز، إلا أنه حتى نعترف بالظلم الذي ارتكبناه في ماضينا، بما يتضمن من دروس وتجارب ضحايانا، ومن ثم تحويل مجتمعاتنا لتصبح مجتمعات أكثر شمولاً، فإننا سنظل نتحمل تبعات خطايانا الأصلية.