لم يكن الحادث المؤسف الذي وقع في جامعة أم درمان الأهلية الأسبوع الماضي، وأدى إلى سقوط طالبين، الحادث الأول من نوعه، ولا أظنه سيكون الأخير. فقد شهد السودان عشرات الحوادث من نوعيته في العقدين الأخيرين وسط الطلاب الجامعيين، تدرجت من استعمال السلاح الأبيض إلى استعمال السلاح الناري. فالطالبان محمد الصادق ومحمد أبو بكر إنما أردتهما يد آثمة برصاص مسدس سريع الطلقات، كما أفاد بذلك عشرات الطلاب الذين شهدوا الحادث الدامي، وتعرض بعضهم لضرب مبرح أدى لاحتجازهم في المستشفيات، كما أفادت أيضاً شهادة الطبيب الشرعي الذي كشف عن محمد الصادق، وجاء في شهادته أن الشهيد تعرض للرصاص في صدره وعن قرب. منذ انقلاب «الإخوان المسلمين» على الديمقراطية في يونيو 1989، سقط أكثر من مئة وخمسين طالباً ضحايا العنف المبرمج الذي دُرب عليه ومارسه الطلاب «الإخوان» تحت سمع وبصر الحكومة وسلطات الأمن. مقارعة الرأي الآخر بالعنف هي منهج أدخله «الإخوان» في البيئة الأكاديمية قبل اغتصابهم السلطة، وهي عقيدة لـ«الإخوان» لم يمارسوها في السودان وحده، إنما في كل البلاد العربية التي ابتليت بهم، وكان المصريون أكثر ضحاياها منذ أواخر الأربعينيات. وقد تطور منهج العنف واغتيال الخصوم السياسيين من حركة محدودة يشرف عليها «النظام الخاص» إلى حركة جهاد انتقلت من القاهرة إلى أفغانستان والجزائر وباكستان وسوريا والعراق.. تحت مختلف المسميات. وعودة لحادث الجامعة الأهلية، فقد بدأ الأمر بدعوة وجهها طلاب الجامعة من أبناء دارفور إلى منتدى للنقاش حول استفتاء دارفور الأخير. أركان النقاش (المنتديات الطلابية) لها تقاليد وتاريخ في الوسط الطلابي في السودان.. وكانت ذات يوم مدرسة لتعلم الديمقراطية وتهيئة «قادة المستقبل» لممارستها عملياً. لكن «الإخوان»، وقد كانوا قلة في الوسط الطلابي، لم يكن لديهم صبر على «الحوار الديمقراطي»، بل تعلموا من كبارهم أن الديمقراطية «بدعة» ابتدعها الكفار! فبدأوا بمجاهدة الشيوعيين، الأمر الذي استحسنه الحكم الإنجليزي، ثم جاراهم بعض الحكام الوطنيين. لا يستطيع «الإخوان» إنكار مسؤوليتهم عن غرس وتوطين العنف الطلابي، ولزعيمهم حسن الترابي أحاديث مسجلة عن «شرعية» مجاهدة الأعداء! وقبل بداية ندوة طلاب دارفور لاحظ طلاب الجامعة وجود وجوه غريبة على جامعتهم، وتعرفوا على بعض الغرباء، لكن -كما قال أحد الشهود- فإنه لم يدر بخلدهم أن التحركات الاستفزازية لدى أولئك الغرباء ستتطور إلى معركة يستعمل فيه السلاح الناري. إن الجريمة التي وقعت في جامعة أم درمان الأهلية نبّهت الغافلين من الآباء والأمهات وعامة المواطنين إلى أن ثمة مخططاً يتطور يومياً لتصفية أبنائهم وبناتهم المعارضين للنظام، وأن الحكومة المسؤولة عن أمن وحماية أرواح جميع السودانيين لم تقم، ولن تقوم بواجبها عندما يتعلق الأمر بمليشيات «حزب المؤتمر الوطني» الطلابية. فالحزب وأجهزته هم مَن دربوا الطلاب على العنف واستعمال السلاح الناري. فأجهزة الأمن في قيادتها لم تعد أجهزة أمن وطني لكل السودانيين، وإنما أمن ووطن الحزب الحاكم فقط. إن الجريمة التي أدت إلى وفاة محمد الصادق ومحمد أبوبكر أصبحت الشرارة التي أيقظت الضمير الوطني والإنساني، ولم يعد الأمر يخص الطلاب وأساتذتهم في الجامعات فقط، وإنما تحول إلى أمر قومي تشاركت فيه كل قوى المجتمع السوداني الحية. وأعتقد أن قرار السلطة تعطيل الدراسة في جامعة أم درمان الأهلية لن يحل للسلطة مشكلة، ولن يطفئ جذوة الشرارة التي انطلقت.