تبجح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في الآونة الأخيرة، متفاخراً بأن «الهبّة الفلسطينية» ضعفت وخفتت، فيما عزا «الشاباك» (جهاز الأمن العام الإسرائيلي) الانخفاض في وتيرتها إلى: تحسين قدرة الاستخبارات العسكرية و«الشاباك» على تحديد واعتقال الشبان الفلسطينيين الذين يخططون لتنفيذ «عمليات منفردة»، إضافة إلى الاعتقالات التي تنفذها أجهزة الأمن الفلسطينية، والنشاط الإعلامي الواسع للسلطة الفلسطينية وأجهزة الأمن في المدارس الفلسطينية لإقناع الطلاب بعدم الخروج لتنفيذ عمليات من ذلك النوع. أما جيش «الدفاع» فرأى أن تراجع عدد العمليات لا يشير لخفوت «الهبّة»، فقيادة الجيش المسؤولة عن الضفة الغربية المحتلة تقدر أن «الهبوط الملحوظ في عدد العمليات خلال الأسابيع الأخيرة، لا يشير إلى انضباط أو تراجع منهجي في الهبّة الشعبية، وما هو إلا هدوء ما قبل العاصفة القادمة، والتي ستكون أشد وأعنف». من جهتها، قامت صحيفة «يديعوت أحرونوت» بمحاورة الضباط الإسرائيليين الستة المسؤولين عن ست كتائب تابعة لجيش الحرب الإسرائيلي تسيطر على الضفة الغربية، من أجل تقييم الحالة الراهنة للهبّة، والسبل الفعالة لمواجهتها وقمعها، فتحدث مسؤول منطقة المجمع الاستيطاني «غوش عتصيون» (جنوبي الخليل) عن كيفية قمع «الهبّة» في قرى محافظة الخليل، وتطرق إلى قرية «سعير» التي خرج منها 12 شاباً نفذوا عمليات خلال شهرين ونصف الشهر: «فحصنا من أي العائلات خرج هؤلاء، وقمنا بنشاطات ضد عائلاتهم فقط، في الوقت الذي منحنا باقي العائلات في القرية تسهيلات». ثم أضاف زاعماً متوهماً: «تعرفت العائلات على الأمر بسرعة، وكبحت كل من يتطلب الأمر كبحه». لكن من أهم ما قيل في الحوار المشار إليه ما أكده أحد الضباط من أن الهبّة «في جولتها القادمة ستقفز عدة درجات، والأمر لن يعود إلى الوراء لأبناء 13 عاماً يحملون سكاكين». ويضيف: «التفجير في الحافلة في القدس (الذي وقع بعد تباهي نتنياهو)، أعادنا جميعاً إلى بداية سنوات الألفين»، في إشارة للعمليات الاستشهادية خلال الانتفاضة الثانية. وقبل أسابيع، استخدمت الكاتبة الإسرائيلية المدافعة عن حقوق الإنسان الفلسطيني «عميرة هاس» عبارة «الانتفاضة اليتيمة»، وأضافت: «ولربما أكثر ما أخشاه أن أسميها لاحقاً: «الانتفاضة المغدورة». وأضافت: لكن هناك عوامل عديدة -إن توفرت- لربما تصبح «الانتفاضة الكبرى الثالثة». ومن جهتنا، ومن واقع الكتابات الإسرائيلية، نشير إلى هذه العوامل، منوهين إلى أن أولها هو: كون هؤلاء الشباب (أبناء 13 عاماً الذين تحدث عنهم الضابط) يتسيسون من عمر السابعة، ويصبحون في سن الـ17 مفعمين بالحياة السياسية، ومن صفاتهم أنه ليس لديهم سوابق أمنية، الأمر الذي يُعقّد المسألة أمام الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. ويلحظ المتابع للصحافة الإسرائيلية أن معظم الكتابات كانت تتحدث عن ظاهرة «الذئب المنفرد»، ولاحقاً أصبحوا يتحدثون عن ظاهرة «الذئاب المنفردة»، فالمسألة لم تعد مسألة فرد أو فردين، بل أصبحت ظاهرة تشمل قطاعاً واسعاً من جيل كامل، وقد شكلت ظاهرة «الذئاب المنفردة»، لا ظاهرة «ذئب منفرد» فقط، مع استمرار عدم معرفة أجهزة الأمن الإسرائيلي لهذه العناصر وقيادتها. أما العامل الثاني، فيعود إلى توفر السلاح المستخدم. فالمقاومون يلجأون للسكين أو الدهس أو أي قطعة معدنية قادرة على الإيذاء، فضلاً عن حالات فردية تستخدم قنابل المولوتوف ضد قوى الاحتلال (عسكراً ومستوطنين)، ما ساهم بامتداح العمل، كونه ليس عملاً «انتحارياً» يستهدف المدنيين. ويتجسد العامل الثالث في أن عمليات «الاستيطان» في السنوات القليلة الماضية دخلت في أحشاء الأحياء الفلسطينية، وبالتالي بات المستوطنون يعيشون بين الفلسطينيين، ولا حاجة للفلسطيني أن يسعى إليهم، كما أن الاحتلال لا يستطيع بناء سور هائل في القدس القديمة، ولا حتى في أحياء القدس الشرقية، لأن العمارة باتت بجانب العمارة وبجانب المستوطنة الجديدة. وحتى العمارة نفسها قد تكون لفلسطينيين تم الاستيلاء عليها من جانب مستوطنين يمكن استهدافهم بسهولة. أما العامل الأخير الذي يشحن بطاريات الهبّة، فيكمن في تداخل الحياة في المجتمع الاحتلالي برمته، وبالذات مع وجود «عمالة فلسطينية» مهمة (تبلغ نحو 200 ألف عامل) تعمل في مهن مختلفة في أعماق المجتمع الإسرائيلي. وهذا الأمر يعزز عدوى الخوف، حيث بات الخوف متبادلاً، مما ينشر الشعور بالشك والخشية من المجهول. وإذا ما توسعت الهبّة، فإنها قد تخلق واقعاً يفتقد إلى الأمان، تاركاً آثاره على الاقتصاد والسياحة والهجرة (الغزو الوافد) والهجرة المعاكسة. لقد استعيدت روح النضال الفلسطيني عبر شبّان لا يرهبون قوات الاحتلال، مثبتين للدولة الصهيونية (وللعالم) أن الاستسلام للعدوان والاحتلال ليس خياراً، مهما طال الزمن ومهما غلت التضحيات. كما أن الرؤية الجديدة للشاب الفلسطيني غيّرت الصورة التي ظلمت الجيل الفلسطيني الجديد واتهمته بالخنوع. فهؤلاء الآن، يقدمون حياتهم، مع أنهم يعلمون سلفاً أنهم حتى عندما يقتربون من الجندي أو المستوطن (وهما المستهدفان)، فإنه سيطلق عليهم النار، وأنهم إن ارتقوا إلى سدة الاستشهاد، أو إن هم جرحوا واعتقلوا، فإنهم يسهمون في تغيير الصورة وإيصال الرسالة ونقل المشعل إلى غيرهم من الشباب الفلسطيني.