بينما يتجه دونالد ترامب نحو الفوز في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، قام المرشح الجمهوري المثير للجدل بإلقاء أول خطاب رسمي له في السياسة الخارجية في السابع والعشرين من أبريل أمام جمهور صغير ومختار في فندق مايفلاور في واشنطن. ومع أنه قرأ خطابه من نص معدّ سلفاً وباستعمال جهاز الملقن («التيليبرومبتر»)، إلا أن الخطاب تسبب في إرباك وتشويش المتلقين أكثر مما كان فرصة لتنوير وتوضيح الأفهام بخصوص الكيفية التي ستكون عليها سياسته الخارجية إذا ما أصبح رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. وعندما أعلن ترامب ترشحه للرئاسة في السادس عشر من يونيو 2015، كانت أكثر تصريحاته إثارة للجدل، هي تلك المتعلقة بالهجرة غير القانونية للمكسيكيين إلى الولايات المتحدة واعتزامه بناء جدار عازل مرتفع على الحدود بين البلدين، على أن تتولى المكسيك دفع كلفة إقامته. بيد أن خطاب ترامب في السابع والعشرين من أبريل المنصرم، خلا من أي إشارة إلى جداره المقترح على الحدود مع المكسيك، لكنه بالمقابل تضمن إحالة قوية إلى تصريحات رونالد ريجان الشهيرة في الثاني عشر من يونيو 1987 في بوابة براندنبرغ في برلين، عندما دعا الرئيسَ السوفييتي ميخائيل جورباتشيف إلى إنهاء عزلة برلين الشرقية عن الغرب و«هدم هذا الجدار» الذي يقسم المدينة. واللافت أيضاً أن ترامب تحاشى الإشارة إلى الطرد الجماعي لمقيمين قانونيين من الولايات المتحدة، مثلما لم يكرر دعوته إلى منع مؤقت للتأشيرة عن كل المسلمين الراغبين في القدوم إلى الولايات المتحدة، كما شدد على ذلك من قبل. ولئن تحسّر ترامب وعبّر عن أسفه لضعف الاقتصاد الأميركي وتضخم الدين الوطني، فإنه دعا أيضاً إلى زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري الأميركي، مشيراً إلى أنه سيؤمّن المال لذالك الغرض من خلال «إنفاق مالنا على نحو حكيم»، وإصلاح سياسات الاقتصاد والهجرة والتجارة، حتى تكون أميركا الأولى عالمياً من جديد. أو كما قال ترامب عن نفسه، فإن «أميركا أولًا» سيكون هو «الشعار الرئيسي والموجّه لإدارتي». غير أن الكثير من المنتقدين يرون أن ذلك التصريح مؤسف جداً ويشي بضعف أو جهل عمل الفريق الذي أعد الخطاب. ذلك أن حركة «أميركا أولاً» الأصلية كانت تحظى بقدر كبير من الدعم بين المواطنين الأميركيين خلال الفترة بين عامي 1940 و1941 عندما كان من الواضح أن ألمانيا النازية أخذت تفوز في الحرب في أوروبا وكانت إدارة فرانكلين روزفيلت تتجه نحو دعم مباشر لبريطانيا المحاصَرة بعد سقوط فرنسا في أيدي الألمان في عام 1940. وفي خطاب حماسي في الحادي عشر من سبتمبر عام 1941، في ديمويْنن بولاية آيوا، أشار الطيار الشهير تشارلز ليندبرغ إلى أن المصالح البريطانية واليهودية تدفع أميركا للانضمام إلى الحرب. لكن الخطاب قوبل بتنديد واسع، وتضررت سمعة ليندبرغ كثيراً، وانتهت حركة «أميركا أولًا» وبشكل مفاجئ في السابع من ديسمبر 1941 عندما قامت اليابان بشن هجوم مباغت على الأسطول الأميركي في برل هاربر. وفي اليوم التالي حصل روزفيلت على موافقة الكونجرس لإعلان الحرب على اليابان. بعض الباحثين يعتبرون أن أيديولوجيا ترامب هي أقرب ما تكون إلى أيديولوجيا رئيس أميركي سابق واسع الشعبية: آندرو جاكسون، الذي كان رئيساً للولايات المتحدة بين عامي 1829 و1937 وقد اشتهر بمواقفه الشعبوية الانعزالية عموماً والمناوئة للهجرة خصوصاً. كما اشتهر جاكسون بامتلاكه للعبيد وقمعه للأميركيين الأصليين. وقد يكون هذا الشبه مع جاكسون صحيحاً، لكنه ليس الأجندة التي تحتاجها أميركا لزعيم الدولة الأعظم في القرن الحادي والعشرين. خطاب ترامب تضمن في الواقع بعض الملاحظات المعقولة مثل الحاجة إلى تحسين العلاقات مع الصين وروسيا، وحقيقة أن القوة الاقتصادية الأميركية مرتبطة بشكل مباشر بقوة أميركا ونفوذها في العالم. كما دعا إلى تجديد القيم والمؤسسات الغربية بدلًا من محاولة نشر «قيم كونية لا يتقاسمها الجميع». وبالمقابل، فإن تعزيز الحضارة الغربية يمثل وسيلة أفضل لتشجيع «إصلاحات إيجابية عبر العالم» من التدخل العسكري، غير أن الجملة الأخيرة تشكّل انتقاداً مباشراً لفلسفتي «المحافظين الجدد» و«الليبراليين الجدد» اللتين ميزتا السياسة الخارجية الأميركية منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001. وإذا تقابلت هيلاري كلينتون وترامب في انتخابات نوفمبر المقبل، فالأرجح أن بعض الأميركيين سيدعمون هيلاري، ربما لا لشيء سوى أنها قد تكون على الأرجح أكثر «صقورية» من ترامب في مواضيع الأمن القومي.