إذا كنت من المنادين بما يُسمى «الديمقراطية الويلسونية»، المنسوبة إلى الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة «وودرو ويلسون» الذي حكم البيت الأبيض لولايتين متتاليتين بين عامي 1913 و1921، فسوف تلاحظ أن ما حدث خلال ربع القرن الماضي لم يكن مشجّعاً. وخلال هذه الفترة، كانت «الديمقراطية التحررية» تمثل الوصفة السياسية المقنعة والوحيدة القابلة للتطبيق لعولمة العالم، ولقد آثرت الإدارات الأميركية الثلاث الأخيرة اعتناق «القيَم الويلسونية»، وجعلت من مهمة الترويج للديمقراطية العنصر الأساسي في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وبالنسبة للرئيس الأسبق بيل كلينتون، كانت الديمقراطية تمثل بحسب وصفه «استراتيجية الأمن الوطني التي تستحق الاهتمام بها وتعميمها على المستوى العالمي». وكانت تشكل في رأي جورج بوش الابن «أجندة عمل لنشر الحرية»، واحتلت البند الأول والقضية الأساسية في الخطاب الافتتاحي لدورته الرئاسية الثانية أمام أعضاء الكونجرس، وهي الأجندة التي أكثر كبار مسؤولي البيت الأبيض من ترديدها في عهده وعلى رأسهم كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية بين عامي 2005 و2009، ولكنّ الرئيس أوباما بدا أقل ميلاً للدفاع عن النهج «الويلسوني» من أسلافه على الرغم من أنه حرص على تعيين عدد كبير من «العولميين المتحمسين» في إدارته، وهو صاحب المقولة الشهيرة: «ليس هناك من حقّ أكثر أهمية من حقك الطبيعي في اختيار قادتك»، وعُرف عن أوباما أيضاً دعمه المفتوح للتحولات الديمقراطية في مصر وليبيا واليمن والعديد من البلدان الأخرى. المهمة الفاشلة ويقول المحللان لاري دايموند ومارك بلاتنير في كتاب يوشك على الصدور، ويتضمن مجموعة مقالات لعدد من الخبراء والمحللين قاما بجمعها وإعدادها للنشر، إن من سوء الطوالع أن تلك الجهود التي تهدف للترويج للديمقراطية لم تكن تسير على النهج الصحيح. ومقابل قصص النجاح الذي تحققت في دول قليلة مثل ميانمار التي تمكنت من إنهاء الحكم العسكري واستبداله بحكم مدني ذي نهج ديمقراطي، فسوف نعثر على الكثير من قصص الفشل في هذا المسعى مثلما حدث في ليبيا واليمن والعراق، بالإضافة للتراجع عن النهج الديمقراطي في كل من تركيا والمجر وروسيا وبلدان أخرى، وحالة «تعطيل» الممارسات الديمقراطية في بعض دول الاتحاد الأوروبي وحتى في الولايات المتحدة ذاتها. ويقول «دايموند» في مقدمة الكتاب إن نحو ربع الديمقراطيات السائدة في العالم، تخلّت عن نهجها الديمقراطي، أو تعرض ذلك النهج للانتكاسات السياسية خلال السنوات الثلاثين الماضية. مخاطر التحول الديمقراطي ولقد تنبّه دعاة المذهب الواقعي (الواقعيون) إلى حاجة الأنظمة السياسية إلى قوة نسبية وجهاز أمني فعال، إلا أن الضغوط التي تتعرض لها غالباً ما يتم التصدي لها بطرق وأساليب متشابهة، وعلى الرغم من هذا، فإن هناك الكثير من الأسباب التي تدفع الواقعيين (وغيرهم)، إلى تفضيل الديمقراطية على الأنظمة الاستبدادية مع الإبقاء على بعض التحفظ على الأخطار التي تترافق عادة مع عملية التحول الديمقراطي. وللديمقراطيات المستقرة سجل جيد في تحقيق النمو الاقتصادي على المدى البعيد، وتعمل بشكل أفضل على حماية حقوق الإنسان الأساسية، وعلى الرغم من أنها قد لا تكون معصومة من ارتكاب الأخطاء والحماقات، فإن من غير المحتمل أن تعمد الدولة الديمقراطية إلى قتل أعداد كبيرة من مواطنيها عن طريق الحصار والتجويع أو الممارسات غير المنضبطة بسبب قدرتها على استغلال المعلومات الاستخباراتية الجاهزة، وغالباً ما تخوض الدول الديمقراطية الحروب بنفس الطرق التي تنتهجها الدول غير الديمقراطية، إلا أن هناك دلائل تشير إلى أن من النادر أن تحارب تلك الدول بعضها البعض. ولهذه الأسباب، أنا أعتقد أن من الأفضل للجنس البشري أن يزداد عدد الديمقراطيات في العالم. طبخة على البخار! والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكننا تحقيق هذا الهدف؟ وقد نخاطر بطرح جواب واضح وبسيط، فنقول إننا نعرف نوعية الممارسات التي تمنع السير في هذا الاتجاه، ونحتكم إلى أفكار وجيهة حول سبب ذلك، وتكمن الممارسة التي تؤدي إلى إفشال هذا المسعى بالتدخل العسكري لفرض التغيير على الأنظمة الاستبدادية. وهي الفكرة التي انتهجتها الولايات المتحدة، وتقضي بعزل الطاغية الذي يقود القوات المسلحة والطغمة التي تسانده في الدولة الاستبدادية، والإسراع بإعداد دستور جديد، وتنظيم سلسلة من الانتخابات، وإنتاج «الطبخة الديمقراطية السريعة على البخار!». وعلى الرغم مما تنطوي عليه هذه الخطة من أوهام، فإن عدداً كبيراً من الأذكياء والمثقفين انتصروا لها وهم يعلمون ما يكتنفها من نقائص وعيوب لا مراء فيها. ثقافة تراكمية وكل المحاولات التي تهدف إلى نشر الديمقراطية فشلت لسببين واضحين ومهمين نعرض لهما فيما يلي: (أولاً) تعتمد الممارسات التي تستهدف نشر الأنظمة التحررية في البلدان المختلفة على أكثر بكثير من الدساتير المكتوبة أو حملات الانتخاب، وهي تتطلب عادة نظاماً قانونياً جامعاً ومتقناً، والتزاماً عريضاً بمبدأ التعددية، ومستوى معقولاً من الثقافة والتعلم يسود أوساط الشعب، وثقة عامة في تلك الأوساط كافة من أن الفئة التي تخسر جولة انتخابية ما ستكون لها فرصاً طيبة لأن تعمل على نحو أفضل في المستقبل، وبما يبقى لديها الحوافز والمبررات لمواصلة العمل في إطار النظام الديمقراطي القائم، ويحتاج تحقيق هذه الشروط على النحو السليم الكثير من العمل والقدرة على المثابرة، ولقد تطلب تحقيق نظام ديمقراطي فعّال ومستقر في أوروبا قروناً، وكان تحقيقها عملية بالغة التعقيد ومصحوبة بالعنف في أغلب الحالات، ولم تأتِ إلا نتيجة لثقافة تراكمية قوامها الرغبة في العيش المشترك واحترام العقد الاجتماعي الذي يتآلف في ظله الجميع، وأما الاعتقاد بأن في وسع القوات العسكرية للولايات المتحدة أن تصدّر الديمقراطية إلى البلدان المبتلية بداء الديكتاتورية، فلا يعدو أن يكون نوعاً من الغطرسة المثيرة للسخرية. (ثانياً) إن استخدام القوّة العسكرية لنشر الديمقراطية لا بد من أن يؤدي إلى اندلاع أحداث العنف، ويكمن سبب ذلك في أن النزعة القومية وبقية مظاهر الشعور بالهوية الوطنية لا زالت قوية في عالمنا حتى الآن. ومعظم الناس، إن لم يكونوا جميعاً، يرفضون تنفيذ الأوامر من محتلي بلادهم الأجانب المدججين بالأسلحة. وهناك ما هو أكثر من ذلك، فالجماعات التي يتم استبعادها عن السلطة وحرمانها من المشاركة في حقها من الثروات الوطنية أو من المشاركة في عملية التحوّل الديمقراطي (مثلما حدث لأهل السنّة في العراق منذ إطاحة نظام صدام حسين)، لا تجد مناصاً من حمل السلاح للتعبير عن اعتراضها على هذه المظالم، كما أن الدول المجاورة التي تجد أن مصالحها تضررت بشكل كبير بسبب هذا التحوّل، سوف تحاول إيقافه أو عكس اتجاهه. ويعتبر هذا التسلسل الطبيعي في تطور الأحداث آخر ما يتطلبه تحقيق الديمقراطية الحقيقية، وذلك لأن العنف يعزز من سلطات القادة الذين يستأثرون بالسلطة والذين سيشعرون أن ما يحدث يصبّ في إطار مصالحهم الخاصة بهم وحدهم على حساب المواطنين الجادين والأكفاء الذين يمكنهم العمل على بناء المؤسسات الحقيقية للدولة الديمقراطية. وسوف يستغل هؤلاء القادة المشاعر الطائفية والمذهبية ويعملوا على تأجيج العنف بدلاً من السعي لإقامة اقتصاد إنتاجي فعال. ومما يزيد الأمور سوءاً هو أن المحتلين الأجانب لا يكونوا على دراية كافية بالمواطنين الأكفاء الذين يمكن توظيفهم في المناصب المناسبة وتحميلهم المسؤوليات التي تتطلبها المؤسسات الديمقراطية، كما أن سعي المحتلين لمساعدة ودعم الحكومة التي يتم تشكيلها في العهد الجديد، غالباً ما يؤدي إلى التشجيع على الفساد وحرف المسار السياسي عن وجهته الحقيقية وبأساليب غير محسوبة تزيد من عمق الخلافات القائمة بين الأحزاب أو الفصائل المتنافسة. الغرباء لا يجلبون الديمقراطية ويمثل تأسيس ديمقراطية جديدة لدولة أجنبية مشروعاً اجتماعياً بالغ التعقيد. ويشبه التوقع بأن تتولى قوى خارجية تحقيق هذا المشروع بشكل فعال، أن نطلب من إنسان عادي أن يبني لنا محطة للطاقة النووية من دون الاحتكام إلى مخططات للاستدلال على الأماكن التي تتكرر فيها الزلازل، وفي كل هذه الحالات، لا بد أن تخيب توقعاتنا. الدبلوماسية أفضل من القوة والسؤال المطروح الآن هو: إذا كان الترويج للديمقراطية هو أمر غير مرغوب فيه، وأن القوة ليست الأداة المناسبة لنشرها، فما الأداة المناسبة؟ هناك مقاربتان يمكن التحدث عنهما في هذا الشأن. تتعلق الأولى بالدور الذي يمكن للدبلوماسية أن تلعبه في هذا المجال، وعندما تتوفر الدولة المعنية على حركات وأحزاب أصيلة تنتمي إلى السكان المحليين وتسعى بجدّ لتحقيق التحول الديمقراطي الحقيقي مثلما كان عليه الحال في دول أوروبا الشرقية إبان «الثورة المخملية»، أو كما هو الحال في ميانمار هذه الأيام، فإن الدول الأجنبية القوية يمكنها أن تستخدم أدوات التأثير الفعالة وبطريقة ذكية لتشجيع وحفز عملية التحول المتدرّج نحو الديمقراطية الحقّة. ولقد تمكنت الولايات المتحدة من التكفل بهذه المهمة بنجاح في عدة حالات منها كوريا الجنوبية والفلبين عندما تحلّت مهمتها هذه بعناصر المثابرة والصبر وباستخدام أدوات غير عسكرية مثل العقوبات الاقتصادية على الأنظمة الاستبدادية التي كانت قائمة. ولا شك أن الاعتماد على الدبلوماسية الأجنبية سيكون أقل استثارة للغضب في أوساط الشعب المعني من الاستعانة بالقوات الأجنبية، وغالباً ما يُكتب لهذا العمل النجاح. ولتوضيح المقاربة الثانية، نعرض للحال الذي آلت إليه الديمقراطية في الولايات المتحدة. فلقد كانت القيم التي قامت عليها الديمقراطية الأميركية صالحة للاقتداء بها ومحاكاتها من طرف الشعوب الأخرى وخاصة بسبب ما عُرف عن الولايات المتحدة من أنها دولة مزدهرة ونشيطة وتنعم بمجتمع تعددي تسوده روح تقبل الآخر بدلاً مما نراه في البلدان التي تعاني من الحكومات الاستبدادية، والتي تتفشى فيها التفرقة وعدم المساواة بين أبناء الشعب الواحد، ويُصاب قادتها السياسيون بداء «رُهاب الأجانب»، وتكون سجونها الأكثر اكتظاظاً بأصحاب الرأي من بقية دول العالم، وتعاني بنياتها التحتية من التآكل والاهتراء بسبب الفساد وسوء التخطيط. ولهذه الأسباب لا تجد من يتحلى بالحماسة للعمل من أجلها أو حتى للدفاع عنها. وعندما يتم استبعاد الملايين من المواطنين الأكفاء من عمليات التصويت، أو عندما تستأثر حفنة من أصحاب المليارات أو أصحاب المصالح الخاصة على السياسات القائمة في الولايات المتحدة، فلن يكون من المدهش أن تتشوّه النظرة العالمية إلى القيَم الأميركية المثالية. ستيفن والت: أستاذ الشؤون الدولية في «معهد كنيدي للدراسات الحكومية» – جامعة هارفارد ترجمة: عدنان عضيمة ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»