أظهر تقرير صدر مؤخراً عن مركز التحكم ومكافحة الأمراض بالولايات المتحدة، بلوغ معدلات الانتحار مستويات قياسية بين الأميركيين، وخصوصاً بين الرجال البيض في منتصف العمر، بدرجة جعلتهم يشكلون ثلث العدد الإجمالي من جميع حالات الانتحار، ورغم أن تقرير المركز الحكومي الأميركي لم يطرح تفسيراً لهذه الظاهرة، فإن الأطباء والمتخصصين أشاروا إلى الزيادة الموازية في استخدام مشتقات الأفيون (الأفيونات) التي تصرف بوصفات طبية، بالإضافة إلى آثار الأزمة المالية التي بدأت عام 2008، ولا زالت تبعاتها مستمرة على الكثيرين، ولم يتعرض التقرير أيضاً إلى مستوى التعليم، أو مستوى الدخل، وإن كانت الدراسات السابقة قد أظهرت وجود ارتفاع في معدلات الانتحار بين البيض الذين لم يحصلوا على درجات جامعية. وبوجه عام، تعتبر معدلات الانتحار المرتفعة، عرضاً أو علامة على حالة من الاكتئاب الاجتماعي أو المجتمعي، أي الذي يصيب شريحة واسعة من المجتمع، أو نسبة مرتفعة من أفراده. ويُرد جزء كبير من التدهور الملاحظ في الحالة النفسية الاجتماعية للعديد من الشعوب إلى التغيرات السريعة التي شهدتها المجتمعات البشرية خلال العقود الماضية، مثل طغيان الثقافة الاستهلاكية، وتزايد العزلة الفردية، وتحلل النسيج الاجتماعي الذي كان دائماً ما يوفر للأفراد نوعاً من الدعم والمساندة من خلال الأصدقاء وأفراد العائلة، كما يرى البعض أن تدهور الاقتصاد في العديد من الدول خلال السنوات القليلة المنصرمة، وتزايد الضغوط المالية على الأفراد والعائلات، قد دفعا بالكثيرين للتخلص من مشاكلهم بالقضاء على حياتهم، ولكن إن كانت هذه الآراء والنظريات قد تطرح تفسيراً لبعض الحالات، فإنها تعجز عن تفسيرها جميعاً. ففي كل عام، ينتحر نحو 800 ألف شخص، 86 في المئة منهم في الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل، على عكس الاعتقاد الشائع بأن الانتحار يحدث بشكل أكبر بين سكان الدول الغنية. وعلى رغم أن أسباب الانتحار تختلف بشكل كبير، فإن الأمراض النفسية والعقلية دائماً ما تحتل مواقع متقدمة في قائمة أسباب الانتحار. حيث يقدر مثلاً أن الاكتئاب وحده يصيب نحو 400 مليون شخص حول العالم، وبمعدلات أعلى بين النساء مقارنة بالرجال، بينما يصيب الهوس الاكتئابي، أو الاضطراب ثنائي القطب، نحو 60 مليوناً آخرين. وعلى المنوال نفسه يصيب الفصام، وبقية أنواع الذهان الأخرى، 30 مليون شخص، أما العتَه والخرف فيقدر أنهما يصيبان حالياً 35 مليون شخص، وهو العدد الذي يتوقع له أن يزداد باطراد خلال العقود القادمة، مع تزايد ظاهرة شيخوخة المجتمعات. كما لا يمكن تجاهل أثر التدهور الاقتصادي، وانخفاض مستوى الدخل، والأزمات المالية، على الصحة العقلية لأفراد المجتمع، وعلى حالتهم النفسية، واحتمالات إصابة شريحة واسعة منهم بالاكتئاب، وما قد يؤدي إليه من انتحار، وهو ما تجسد في دراسات متواترة خلال السنوات الأخيرة، أجرتها بعض أعرق جامعات العالم، ونشرت نتائجها في العديد من الدوريات الطبية المرموقة، وقدرت أن الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالدول الأوروبية، ودول أميركا الشمالية، والعديد من دول العالم منذ نهاية عام 2008، قد تسببت في انتحار 10 آلاف شخص في بعض التقديرات. أما عن ملاحظة تعرض نسبة أكبر من الرجال الأميركيين البيض، غير الحاصلين على شهادات جامعية، لأعلى نسبة من معدلات الانتحار، فيمكن رد ذلك إلى سببين. الأول هو أن من لم يكملوا تعليمهم الجامعي، يعانون مالياً في أوقات الأزمات الاقتصادية مثلهم مثل بقية أفراد المجتمع، وإن كان بشكل أكبر، كون الوظائف الدنيا غير المهارية تتعرض لضغوط أكبر في زمن الأزمات. السبب الآخر في العلاقة بين مستوى التعليم ومعدلات الانتحار، يرد إلى ما يعرف بمحددات الحالة الصحية (Health Determinants)، والتي يمكن تلخيصها في أربعة عوامل رئيسية، هي الخصائص البيولوجية والفسيولوجية، والبيئة المحيطة، ونمط الحياة الشخصية، ومستوى الرعاية الطبية المتاحة. وبخلاف الخصائص البيولوجية، والتي غالباً ما تكون وراثية، يؤثر مستوى التعليم في البيئة المحيطة بالشخص، وبنمط الحياة الشخصية، وبما هو متوفر له من رعاية طبية، ما يجعل مستوى التعليم واحداً من أهم محددات الحالة الصحية، بما في ذلك الصحة العقلية والنفسية. ولذا يمكن تفسير تمتع الرجال الأميركيين متوسطي التعليم بأعلى معدل من الانتحار، إلى أن انخفاض مستوى تعليمهم مقارنة ببقية الأفراد المحيطين به، يضع عليهم ضغوطاً مالية أكبر، في وقت قد تكون فيه البيئة المحيطة بهم غير صحية، وأن يكون نمط حياتهم الشخصي غير صحي أيضاً، ودون أن تتوفر لهم الرعاية الصحية النفسية اللائقة، مما يدفع بهم إلى هاوية الاكتئاب النفسي الشديد، ليقتلوا أنفسهم بأنفسهم عند بلوغهم قاع تلك الهاوية.