تتوالى طرح الرؤى التنموية الخليجية واحدة تلو الأخرى لإحداث تغيرات جذرية في البنية الاقتصادية لدول المجلس بهدف إيجاد بدائل للنفط من خلال تنويع مصادر الدخل، حيث حددت جميعها عام 2030 لإحداث التغيير المنشود، وذلك بعد مائة عام تقريباً من انتاج أول حقل نفطي خليجي في عام 1932 بالبحرين. لقد أحدث النفط على مدى العقود الماضية انقلاباً في البنية الاقتصادية والاجتماعية انتقلت خلالها دول المجلس من مجتمعات بسيطة إلى دول تقدم خدمات راقية ومركز استقطاب عالمي لرؤوس الأموال والنقل والخدمات ونقطة وصل بين مراكز العالم الرئيسية، كما تطور التعليم والخدمات الصحية والسكنية بصورة مذهلة، وتمتع المواطنون والمقيمون بمستويات معيشية جيدة. في الوقت الحاضر، تدرك القيادات الخليجية أن المئات من المليارات التي استثمرت في البنية التحتية الصلبة، كالموانئ والمطارات والطرق ووسائل النقل ومحطات إنتاج الطاقة والناعمة منها، كالتعليم والتأهيل لا بد من استثمارها لإيجاد بنية اقتصادية تملك قوة دفعها الذاتية بعيداً عن النفط من خلال رؤى تم تحديد مساراتها بدقة. ربما يستغرب الآخرون هذه التوجهات الجريئة والحازمة لدول المجلس، إلا أن من يعرف تاريخ الخليج جيداً سيدرك أننا قد يطول بنا الوقت في سرج خيولنا، إلا أنه متى ما انطلقنا، فإننا ننطلق بسرعة للوصول إلى الهدف بغض النظر عن الصعوبات والتحديات، خصوصاً أن منطقة الخليج تمر بظروف غير مستقرة تساهم فيها قوى إقليمية وأجنبية حانقة للتقدم الذي حققته دول المجلس في كافة المجالات. هل يمكن الابتعاد عن النفط بهذه المسافة الكبيرة في وقت قصير نسبياً لتصل نسبة مساهمته في الناتج المحلي إلى 20% فقط؟ وهل بالإمكان بناء قطاعات اقتصادية غير نفطية تعتمد على قاعدة انتاجية قوية وتطوير التعليم وربطه باحتياجات سوق العمل لتوفير الوظائف إلى آخره من الرؤى والتوجهات؟ الجواب نعم، وذلك بفضل العديد من الأسس التي بنيت عليها الاقتصادات الخليجية في الفترة الماضية. أولها البنية التحتية المتطورة للغاية، والتي لا تقل جودة وتطوراً عن مثيلتها في البلدان المتقدمة، وهذه إحدى أهم أسس النجاح، وتعبر عن صحة توجهات دول المجلس التي استثمرت بكثافة في إقامة مرافق البنى التحتية التي جاء الوقت لحسن استغلالها لتنمية بقية القطاعات الاقتصادية غير النفطية. ثانياً التطور الكبير الذي طال البنى التشريعية والأنظمة والقوانين، والتي تشكل في مجموعها عامل جذب واستقطاب للاستثمارات المحلية والأجنبية، وتخلق بيئة استثمارية آمنة ومستقرة تضمن الحقوق وحرية حركة رؤوس الأموال. ثالثاً: الأمن والاستقرار الذي ميز الأوضاع في دول المجلس والتأييد الشعبي الكبير لرؤى القيادات، مما أوجد حالة من الانسجام التي تدعم السلم الاجتماعي وتعزز الثقة في هذه التوجهات. رابعاً: العلاقات الطيبة التي تتمتع بها دول المجلس مع بلدان العالم واحترامها للقانون الدولي، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى والتزامها بسياسة حسن الجوار والتعاون ومد يد العون من خلال تمويل آلاف المشاريع التنموية والاجتماعية والإنسانية في معظم بلدان العالم. هذا جزء من الأسس التي توضح أن الرؤى الخليجية الجديدة لم تأت من فراغ، وإنما هي تراكمات لسنوات من العمل والجهود التي شاركت فيها قيادات تاريخية وأجيال تحدت مختلف الصعاب وتجاوزتها بحزم وإصرار مستغلة ما وفرته الثروة النفطية من إمكانات مؤقتة لا تعوض، وكمثال بسيط على ذلك يمكن الإشارة إلى الصعوبات التي واجهت جيلنا للالتحاق بمؤسسات التعليم العالي في البلدان الأخرى لنجد لدينا الآن مؤسسات تعليمية حديثة تجاري مثيلتها في تلك البلدان. صحيح أن هناك تحديات ليست قليلة، إلا أن الأكيد هو أن التجربة السابقة تؤكد، بأنه يمكن تذليلها والوصول بنجاح للغايات والأهداف المعلنة في الرؤى الجديدة لنصل في عام 2030 إلى خليج عربي مختلف يملك اقتصاده مقومات استمراره وتطوره بحد أدنى من الاعتماد على النفط بصورة لافتة.