تركت المقالة الأخيرة التي نُشرت في يوم الثلاثاء الماضي وتحت عنوان «سوريا وأسئلة اللحظة» أثراً أو بعض أثر في وسط من الزملاء والأصدقاء والمهتمين بالشأن السوري الراهن. وفي أعقاب ذلك وفي سياقه استقبلتُ مكالمات هاتفية يرغب أصحابها في قراءة ما قد يكون سبق ما تحدثت عنه في إطار المقالة الأخيرة. ومع أنني أعمل الآن على إخراج سيرتي الذاتية بعجرها وبجرها، فإن ثمة ما يمكن الإتيان عليه وله علاقة بما قدمتُه مؤخراً. من هنا، أنطلق الآن من حدث كان له وقْع في كثير من أموري وأمور آخرين من القريبين مني، خصوصاً على صعيد المعمعان القائم في الوطن السوري، وما يُتوجه راهناً من اصطياد ماكر ووحشي للأطفال هنا وهناك، في مشفى القدس بحلب مثلاً. لقد بدأ الأمر بدعوة لي وللمرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي جاءتنا من رئاسة جامعة دمشق لتقديم مناظرة فيها حول «الإسلام والعصر»، وكان ذلك قد حدث في أواخر حياة حافظ الأسد وفي الساعة الخامسة من أحد أيام الصيف. وقد حلّ هذا اليوم، فأتى أصدقاء البوطي إلى مكان المناظرة قبل ساعتين من موعدها المُعلن. أما أنا فأتيت إلى المكان المذكور، كما يأتي العاديون، أي قبل ربع ساعة من البدء، وحين دخلت الجامعة، لاحظت وجود تجمعات من الناس الضيوف، مع ضجيج هنا وهناك، إضافة إلى أني علمت من الحضور أن مجموعة منه قامت بـ«صلاة الشهادة»، وأتبعت ذلك مع غيرها، بشيء من الهرج والمرج. نعم، حين دخلتُ باحة علتْ أصوات وسُمعت أخرى مُعلنة بعض الكلام النابي في أثناء دخول أرتال من الأستاذات والطالبات إلى قاعة المحاضرات، ما أحدث جلبة وأحدث لفظاً فظّاً بحقهن وارتأت رئاسة الجامعة بالاتفاق معي، أن تُرجأ المناظرة لوقت آخر ومكان «أنسب»، وفي حينه، اتصل رئيس الوزراء بي، معلناً اعتذاره عن تعاظم «قوى الظلامية على قوى التنوير»، وأن الأمر سيختلف لاحقاً، بعد كذا من الوقت. أجبته شاكراً، حين يتم الأمر بروح من الحرية والديمقراطية. وارتفعت أصوات ومنها صوت أعلن أن سوريا اليوم تعيش ملامح انقلاب عسكري، واكتملت المسألة بتحرش طرف بآخر. فخرج من يرى ضرورة إنهاء التجمع وتأجيل المناظرة وانفضّ الناس. في صباح اليوم التالي، اتصل بي في البيت مستشار للرئيس، ليعلمني أن الرئيس يريد أن يلقاني، فجاء إليّ، وانطلقنا إليه في قصر الرئيس في حي «أبو رمّانة» الشهير. سألني الرئيس عمّا حدث في اليوم السابق في جامعة دمشق، أجبته قائلاً: سيادة الرئيس، أنا معلّم، والمعلّم لا يخذل أهله، لقد حدث البارحة ما قد أستطيع اختزاله بمصطلح هو «الاستبداد الرباعي» الذي ظهرت تجسداته في التوتر الكثيف، وفي غياب الحوار الوطني الديمقراطي في المجتمع السوري، ومن ضمنه الجامعة السورية، فسألني الرئيس: كيف ذلك؟ أجبته: هنالك أربعة أمور تتشابك في ضبط الموقف، الأول منها يتمثل في الاستئثار بالسلطة، والثاني في الاستئثار بالمرجعية المجتمعية المحددة بالحزب القائد ورئيسه القائد! لقد استمع حافظ الأسد إلى ما قدمته بناء على رغبته، فكان مُنصتاً بدهشة وربما برغبة في بعض الزيادة، وفي أعقاب ذلك سألني عن الجامعة التي أعمل بها «جامعة دمشق»، أجبته بالإشارة إلى ما أخذ يتمدّد في تلك الأخيرة من فساد وإفساد تحت عنوان راح يتندر به من يهمه الأمر من الباحثين عن النجاح، وهو «ادفع، أو ارفع»! ها هنا، أحسست أن الرئيس عبَر بلحظة غير اعتيادية فسألني: ما رغبتك في عمل ما تراه مناسباً ضمن هذه الحال، أجبت: سيادة الرئيس، ذهبت في وقت ما مضى إلى وزيرة العمل والشؤون الاجتماعية، عارضاً عليها رغبتي مع عدد من الزملاء والأصدقاء في تأسيس مركز دراسات استراتيجية في البلد، يسعى إلى البحث في الخلل العميق والجدي في المؤسسات الثقافية وما يوازيها ويكرّسها من مؤسسات اقتصادية وسياسية وغيرها. وبعد استماع الوزيرة إلى هذا الطلب، أجابت: الآن، يا دكتور، أتريد أن تؤسس مثل هذا المركز، وأنت تعلم كم الأوضاع في الوطن معقدة وصعبة وحساسة، فلا نريد، في هذه الحال أن نزيد الطين بلّة! حينها، أجبت السيدة الوزيرة، يا حضرة الوزيرة، بالضبط، لأن الأوضاع في الوطن، بما في ذلك بسوريا هي على ذلك النحو، فإن معالجتها معالجة علمية عقلانية أصبحت مطلوبة! فذهبت. تلك كانت نهاية اللقاء مع حافظ الأسد، وفي النهاية، قد أسمح لنفسي بالإفصاح أن الرئيس لم يترك ما سمعه يذهب مع الريح، ولكني تركتُ نفسي أستعيد ما حصل معي من حدث أتيتُ عليه، وارتفعت وتيرة هذه الاستعادة في الوقت الراهن، حيث تُعاتبنا وتُعنّفنا سوريا الجريحة، التي عرفها العالم «أيقونة الشرق الحزين»، ولم يعد مثمراً الإعلان أننا إن لم نبدأ (الآن)، فإننا سنجد أنفسنا في حالة مفتوحة من «تسونامي كوني»!