«إذا كنت رايح كَثِّر الفضايح» يقول المثل، وهذا ما تفعله واشنطن حالياً مع السعودية. فـ«كمال العيش معانقة المشاكل، وليس الهروب منها» حسب الفيلسوف الألماني نيتشه، والسعودية قرَّرت أخيراً أن تعانق المشاكل، خصوصاً في علاقاتها مع واشنطن، وهي مشاكل لا تنتهي، آخرها إثارة موضوع الهجمات الانتحارية بالطائرات في 11 سبتمبر 2001. بعد 14 عاماً على وضع تقرير لجنة التحقيق المشتركة للكونغرس، أُعيد طرح موضوع 28 صفحة في التقرير أمر الرئيس السابق بوش بعدم الكشف عنها، ويُعتقدُ أنها تتضمن معلومات قد تدين مواطنين سعوديين بتدبير الهجمات التي شارك فيها 19 انتحارياً. وكانت نتائج لجنة تحقيق مستقلة نفت عام 2004 وجود أدلة على أن الحكومة السعودية أو مسؤولين سعوديين قاموا بتمويل «القاعدة» التي نفذت العملية. وحرَّكَ القضية مجدداً طَلَبُ أهالي الضحايا تحميل الحكومة السعودية دفع تعويضات. وسبب ذلك ليس الدور الذي تحتله التوظيفات السعودية في الولايات المتحدة فحسب، بل لأن صدور مشروع قانون كهذا عن الكونغرس يفتح أبواب جهنم على واشنطن، وحكومات الغرب، المسؤولة عن جرائم حرب أودت بحياة ملايين العرب والمسلمين والفيتناميين وتدمير بلدانهم، وأكدَّ «أوباما» أنه سيستخدم الفيتو ضد المشروع «لأنه سيدفع بلداناً أخرى إلى إقامة دعاوى قضائية مقابلة ضد حكومة ومواطني وشركات الولايات المتحدة». والاتهامات المتناقضة للسعودية بالتآمر ضد واشنطن مثل جمجمتي كولومبوس الموجودتين في متحف «هافانا»، حسب الكاتب الأميركي الساخر مارك توين، «إحداها لكولومبس صبياً، والثانية لكولومبس شاباً»! وشاء السعوديون أم أبوا فإن بلدهم «فاتيكان» و«روما» في آن، «فاتيكان» من دون «بابا» ولا قلنسوات، أو عمائم، ومعظم أعضاء مجلس الوزراء السعودي وهيئة رئاسته، يحملون الدكتوراه من أرقى الجامعات الأميركية، لكن السعودية تستثير التيار «التاريخي» و«الغريزي» المعادي للإسلام. وإذا كانت لتركيا، وريثة أطول الإمبراطوريات الإسلامية عمراً، ممرات وأبواب «جيوسياسية» مع القارة الأوروبية، كشفت عنها أزمة اللاجئين، فلا أبواب وممرات بين السعودية والغرب غير أنابيب النفط. والسعودية واحدة من سبع قوى عظمى، وفق «مارك ليونارد»، مدير «الهيئة الأوروبية للعلاقات الدولية»، الذي يصنف العالم إلى: «الولايات المتحدة: القوة المالية العظمى»، «الاتحاد الأوروبي: القوة التنظيمية العظمى»، «الصين: القوة المُنشئة العظمى»، «تركيا: قوة النزوح العظمى»، «روسيا: القوة الكابحة العظمى»، «السعودية: قوة الطاقة العظمى»، وأخيراً «قوة الناس العظمى» التي تتمثل بمستخدمي «الإنترنت» القادرين على شن حملات القرصنة، وتدمير الفضاء السايبيري، وشلّ أعمال الاستثمارات «أونلاين». وتُغيِّر التقسيمات «الجيوسياسية» طبيعة الصراعات والحروب بين القوى العظمى الجديدة، وهو ما تطلق عليه دراسة «هيئة العلاقات الدولية الأوروبية» اسم «حروب الترابطات العالمية»، ونموذجها عواقب إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية في نوفمبر الماضي. ردود أفعال موسكو على الحادث بلغت حد اعتباره كاغتيال أرشيدوق النمسا الذي أطلق الحرب العالمية الأولى، لكن قرارات بوتين جاءت مخالفة حتى لنزعته الهجومية، حيث أوقف استيرادات الفواكه والخضراوات من تركيا، ورحلات الطيران التجارية والسياحية، وأعاد فرض تأشيرات السفر. لم تعد الأجواء وساحات المعارك ميادين القتال الرئيسية، بل الهياكل الارتكازية المترابطة للاقتصاد العالمي: تعطيل التجارة والاستثمارات، والقوانين الدولية، والإنترنت، واتصالات النقل، وحركة الناس. و«أهلاً بحروب الترابط»، حسب الدراسة الأوروبية، التي لا تقدر القوة الاستراتيجية للسعودية بعدد جيوشها، وأسلحتها الحربية، بل بعشرة ملايين برميل نفط تنتجها يومياً، وسيطرتها على خُمس التجارة العالمية للنفط.