بيرني ساندرز اسم لمع كالشهاب في سماء واشنطن. فقد تحول، بسرعة خارقة، مرشحاً جدياً عن الحزب الديمقراطي لخوض معركة الرئاسة. صحيح أن من شاركه الصعود المفاجئ لم يكن إلا المرشح المهرّج والعنصري دونالد ترامب، الذي لا يزال أقوى مرشحي الحزب الجمهوري لتولي المنصب الأول، والازدواج المتناقض هذا، ترامب/ ساندرز، إنما ينمُّ عن تصدع الوسط في الولايات المتحدة. ولكن الصحيح أيضاً أن ترامب لا يقدم سوى ديماغوجيات الكراهية حلاً لمعضلات أميركا والعالم، فيما يحمل ساندرز رهاناً على تحويل بلده إلى النموذج الإسكندنافي الذي يمزج الديمقراطية الغربية واقتصاد السوق بدرجة من تدخل الدولة وتوزيع الثروات لمصلحة الأضعف والأفقر. فساندرز، كما قال في زيارته الخاطفة الأخيرة لروما، إنما يجهد للوصول إلى «اقتصاد أخلاقي» لا تكون السياسة فيه مطيّة للشركات، ولا يتعارض الربح مع قيم المجتمع وتضامنه. أمّا اعتماد النموذج الإسكندنافي الذي تدل البراهين الكثيرة على تفوقه على النظام النيوليبرالي، وطبعاً على النظام التوتاليتاري للاقتصاد الموجّه، فيفرضه سبب آخر هو إنهاء الشذوذ الأميركي التقليدي. ذاك أن الولايات المتحدة، وبسبب أسبقية المجتمع فيها على الدولة، طورت ميلاً عاماً إلى رفض كل تدخل لهذا الوافد الجديد المسمى دولة في تسيير المجتمع وتغييره. وقد عملت عقود الحرب الباردة على خلق نوع من المماهاة الكاذبة بين أدنى تدخل، أكان في النظام الضريبي أو الصحي، وبين التوتاليتارية الشيوعية المناهضة للحرية والفردية. لهذا، ووفقاً لما كشفته متاعب إدارتي بيل كلينتون وباراك أوباما الديمقراطيتين، تنتصب تحديات لا حصر لها أمام كل إنجاز يتصل بالضمان الصحي ويرتد نفعه على ملايين الأميركيين. والواقع أن الولايات المتحدة لم تعد تستطيع الاستمرار على النهج الذي أرست دعائمه إدارة رونالد ريغان في الثمانينيات، وهذا أبز الأسباب وراء صعود كل من ترامب وساندرز كوجهين يقعان، رغم تناقضهما، خارج «المؤسسة» التقليدية. ذاك أن الفجوة بين الفقراء الذين يزداد عددهم والأغنياء الذين يزدادون تركّزاً غدت واسعة جداً، بل غير مسبوقة. وإذ تتقلص فرص العمل بسبب تفريع وحدات الإنتاج والخدمات بنقلها إلى الخارج، حيث اليد العاملة أرخص، فإن الشبيبة تشعر بانعدام أفق كامل: فالخريج الجامعي بات مرتهناً، ولسنوات مديدة، كي يستطيع سداد الديون التي مدّته بأقساط تعليمه. وهذا يعني تأخّر سن زواجه، وعيشه مدة أطول في بيت أهله بما يعزز العلاقات والقيم الأشد محافظة. إلا أنه يعني أيضاً، من ناحية أخرى، استعداداً أعلى لدى هذا الخريج الجديد لممارسة أعمال ونشاطات فاسدة تكفل له تسريع قدرته على ردّ الدَّين الثقيل الوطأة. وعلى أية حال، فإن ساندرز، وهذا هو المرجح، قد لا يتمكن من الفوز بترشيح حزبه. ذاك أن من يواجهه في المنافسة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية السابقة ذات الخبرة الجدية، وزوجة الرئيس السابق بيل كلينتون التي شاركته هندسة بعض المسائل الاجتماعية إبان ولايتي حكمه (1992- 2000). وغني عن القول إن القيادات التقليدية للحزب الديمقراطي أقرب كثيراً إلى كلينتون منهم إلى بيرني ساندرز «الغريب» و«الطارئ». بيد أن ذلك لا يلغي حقيقة ستزداد آثارها وضوحاً في السنوات القليلة المقبلة، وهي أن ساندرز ترك على السياسات الأميركية بصمة سيضطر أي رئيس مقبل إلى أخذها بعين الاعتبار، خصوصاً في ظلّ نسبة تأييده لدى الشبية وصغار السن ممن سيتعاظم دورهم مستقبلاً. وهذا لا يلغي الأسئلة عن جوانب في سياسته الخارجيّة، وعن موقفه من الاتفاقات التجارية الدولية، أو من حمل السلاح، ولكن ذلك لا يغير في الأساسيات، أي تغيير أميركا. ------------ كاتب ومحلل سياسي- لندن