في الماضي السحيق كانت العرب، وتحديداً عرب الجزيرة العربية، قبل أن يخرجوا من عزلتهم فيها، معروفون بأن لديهم ولعاً في انتقاد العرب الآخرين من خارج جماعتهم، أي تلك الجماعات التي لا تمت للناقد بصلة قرابة، وعادة ما كانت انتقاداتهم أو هجاؤهم لبعضهم بعضاً لاذعاً، وقد ورد الكثير من ذلك في شعرهم وحواجيهم التي وصلت إلينا، لكن منذ اتصال العرب بالعالم الخارجي في مراحل ما بعد العصور الوسطى، وتحديداً بالأوروبيين كغازين ومستعمرين مر الانتقاد العربي بالآخرين بتطورين: الأول، أنه أصبح انتقاداً عاماً، بمعنى أنه ليس موجهاً نحو مجموعة عربية منافسة فقط، ولكن ضد الشعوب العربية في مجملها، وثانياً، تحول النقد نحو الداخل، بمعنى أنه تضمن جماعة الناقد ذاته، وفي كثير من الأحيان تم التمادي على هذا الصعيد إلى درجة فرز الجماعات الداخلية إلى حد التجريح الحاد أو اللاذع جداً. إن هذا النمط من النقد الذي وجد لدى المثقفين العرب وبلادهم تحت النفوذ العربي يعد من أكثر التطورات الثقافية أهمية. وفي هذه المرحلة من تاريخ العرب عامة، النقد، أو انتقاد الآخرين هو صيغة من صيغ عدم الرضا أو التململ، فهو يهدف إلى الإطاحة بأفكار سائدة عوضاً عن الإطاحة بحكومات قائمة، ذلك يعني أن النقد هو تنفيس عن مكنون الذات ليس إلا، فهو أقل كثيراً من كونه يهدف إلى التحريض أو الثورة، وفي معظم الأوقات يتم التغاضي عن ما يقوله الناقدون تجاه السلطات الحاكمة لأنه يتم النظر إليه على أنه إشباع عادي للأنا. وبالفعل أنه من الصعب تصور أي أمر آخر أكثر إشباعاً للأنا من النقد، لأن المنتقد يحتفل بشكل مركز بينه وبين ذاته بالتفوق الخاص بوجهات النظر الخاصة به على وجهات نظر جميع الأشخاص الآخرين (أو هو يعتقد ذلك)، في الوقت نفسه الذي لا يتحمل فيه المسؤولية المتعلقة بما هو صحيح أو خطأ، ونادراً ما يتم استدعاؤه من قبل السلطات المختصة لتحمل مسؤولية الأخطاء التي يرتكبها. فعلى سبيل المثال العديد من المثقفين العرب المحترفين يناصرون الآن التفكير الثقافي المحافظ الجديد الخاص بالتيار الديني والسياسات المرتبطة به مع الادعاء الشديد السمج بالعصمة من الخطأ في طروحاتهم ونقدهم للأفكار المغايرة لذلك. وبالتأكيد أن الفكرة المتعلقة بالنقد الذاتي لدى العرب كانت ولازالت موجهة نحو القصور أو النقص القائم لديهم حالياً، وليس نحو إخفاقات الماضي. إن الأمر الأكثر بعثاً للضيق بسبب الانحدار الذي بدأ لدى العرب قبل سبعة أو ثمانية قرون خلت، والذي وجدت بسببه مجموعة كبيرة من العيوب أو الأعذار الخارجية الجاهزة لإلقاء اللوم عليها يعود إلى الإقرار بأنه في هذه المرحلة، وبعد مرور أكثر من قرنين من الاتصال بالغرب، لايزال العرب يقعون خلف الأمم الأخرى ثقافياً واقتصادياً وتقنياً، هذا بالإضافة إلى العديد من الجوانب التي يقرون بأهميتها دون تساؤل ويأخذون بها تقليداً للغرب، سواء كان ذلك باختيارهم ورضاهم أو أنهم مجبرون عليها بسبب مظاهر العولمة. وعليه فإنه يوجد سؤال يتم طرحه بوتيرة متزايدة، بل وبعدم صبر شديد: فهل نحن كعرب لانزال غير متعلمين بشكل واسع النطاق، وضعفاء اقتصادياً، ومتخلفين تكنولوجيا؟ هذا السؤال قائم في الوقت نفسه الذي يواجه فيه العرب حقيقة كون معظمهم كشعوب تعيش في دول عدة عرضة للجهل والفقر والمرض الذي يتهددهم بشكل مستمر، وأخذاً بعين الاعتبار العلاقة السياسية وعلاقات القوة المختلة بين العرب والغرب، والنزعات والميول المحددة الخاصة بالعقل العربي، فإن الجواب على السؤال المطروح هو أن الغرب أثناء سيطرته الاستعمارية أبقى العرب في الحضيض ومنع عنهم حيازة المهارات الضرورية التي يمتلكها بالإضافة إلى أنه منعهم من المعرفة التكنولوجية أو الإنجازات الفكرية أو كليهما معاً بسبب بواعث الأنانية المرتبطة بمصالحه الخاصة دون الالتفات إلى مصالح العرب.