التفكير الصحيح مقدمة للمعرفة الصحيحة، والمعرفة الصحيحة مقدمة للاعتقاد الواعي، فعندما يكون المثقف سطحياً يصبح إيمانه بالقضايا التي يؤمن بها سطحياً، وكذلك دوره في تنمية المجتمع، فهو يخشى الانتقاد، أو أن يتعرض لهجوم عليه، ولا يخرج من عباءة التقليدية والإمعان والإقرار بما يعتقد به الأغلبية، وإنْ كان وصل لقرار ونتيجة في قرارت نفسه أن ذلك الاعتقاد غير صحيح. فلا يجوز أن نطلق مسمى «مثقف»، بل مثقف مستنير على شخص ضيق الأفق، وما يميزه التبعية العمياء للخرافة، وإن كانت علمية أو متداولة بشكل مقبول في الأوساط الثقافية وعلتنا في عالمنا العربي أن المثقف العربي في الكثير من الأحيان مثقف غير أصيل، وبما معناه مثقف مقلد ونسخة مكررة للمثقف الفرنسي أو الإنجليزي أو الأميركي، وفي أحسن الأحوال نسخة مكررة للمثقفين في الدولة الأكبر، أو التي قادت ثورة الثقافة في الجزء الذي يقطن به من العالم، ويعتقد البعض أن المثقف لا بد، وأن يتكلم لغة أجنبية غير لغته الأم حتى يصبح مثقفاً، وهو طرح مبالغ فيه كون وصوله للعالمية ممكناً من خلال لغته الأم التي قد تترجم لعدة لغات عالمية في حالة كون المثقف أديباً أومفكراً أو كاتباً له منتج مميز، وليس صناعة إعلامية. فالمثقف العربي أو الآسيوي أو الأفريقي أو اللاتيني، وإن كان اللاتيني أكثر أصالة نسخة مقلدة لشريحة المثقفين في أوروبا وأميركا، ويسود الاعتقاد بأن المثقف هو من يقرأ كثيراً، ويملك الكثير من المعلومات في شتى العلوم ومصدر تسلية لمن حوله بالمعلومات أو داعم للقرار وذاكرته تعج بالبيانات التي قد تصنف معرفة عندما تحلل ويكون لها مخرجات، وقد يكون الشخص أستاذ جامعة وغير مثقف، ولكنه من أهل الفكر ويمتهن وظيفة لها علاقة بالفكر والعقل، أما المثقف فهو الشخص غير الأرستقراطي، والذي لديه موقف ضد الاحتكار والتحزب والتنظيمات السرية، ومتسامح ومتقبل للآخر، بكل مافيه من إيجابيات وسلبيات، وليس لديه أحكام مسبقة يجعلها أساساً للحكم والتعامل مع الآخرين والأشياء، وهو الفطن القادر على الإدراك والفهم الذي يقود لإستنتاج عقلاني، ويحسن التفكير والتدبير برؤية واضحة واسعة في الأفق، وبعد نظر واستنارة بعيدة عن الجمود، والأهم من ذلك كله صاحب رسالة يريد أن تصل لأكبر قدر من الجمهور، وإنْ كان داخل حدود أسرته وأصدقائه في أضعف الإيمان. فالمثقف صاحب رسالة تهدف لليقظة، ففي الغرب يطلق على الشخص صاحب الشهادة العلمية صفة المتعلم، أو صاحب فكر، ولكن لا يطلق عليه مثقف حتى يصاحب ذلك عمل يستنير به الآخرون، ويلامس عمله قضايا المجتمع وهمومه، ولا يقول ذلك الأمر ليس من تخصصي، فهو لا يعنيني كون المطلوب ليس رأيه احترافياً بقدر ما هو تمهيد الطريق للآخرين لكي يصلوا لقراراتهم باستخدام آلية تحويل عقولهم من عقول متلقية للمعلومة أو باحثة عنها إلى عقول فاحصة لها ومستخرجة لنهج جديد أو معلومة أو حقائق وبراهين، تلغي أو تعدل على أو تؤكد المعلومة المكتسبة. وأكبر خديعة وقع فيها الكثير من المثقفين في عالمنا الإسلامي هو محاربة الدين، ولا نقصد بمحاربة الدين هنا عدم الإذعان للطبقية الدينية في الفكر ورفض الإقصاء، فلا فرق في رأي الشخصي بين من يقول باسم الله، أو باسم الشعب، عندما يكون الاثنان أداة هدم وتخريب للمجتمع، فمعرفة النفس هي الأساس، وكل إنسان شركة قائمة بذاتها، والتحدي هنا ضرورة عدم تقديس العلم، واعتبار كل معرفة تأتي عن غير طريق العلم هي معلومة غير جديرة بالثقة، فمشرط الجراح لن يصل للروح، وكذلك فهمنا المتواضع والتحدي الآخر هو الخروج من نفق فكرة أن أماكن معينة وقرون معينة ورموز معينة، هي مصدر الثقافة ووحدها يجب أن يلقى عليها الضوء. والأمر الآخر هو تصدير الإنتاج أو الفعل الثقافي والحضاري وانتظار العائد المادي أو المعنوي، وإذا لم يتحقق ذلك يفقد المثقف مصداقيته مع نفسه لأنه وضع الآخرين قياس لنجاحه من عدمه في كونه ليس موظف ثقافة، فالثقافة ليست وظيفة، وإنما حالة عقلية ونفسية يعيشها المرء، ولا يتنازل عن حب الثقافة لذات الثقافة كجزء محوري من رحلة الحياة، ولا أعلم في الحقيقة متى ستحدث ثورة خضراء في عالمنا العربي، ولكني موقن أنه لا يكفي أن نعيش حياة مدنية حتى تزدهر الثقافة، طالما أن البنية التحتية للثقافة غير مكتملة، فالطفرة الثقافية هي السبيل الوحيد لتخطي الجبر التاريخي.