لا أتصور أن المرشح الجمهوري الأميركي دونالد ترامب، الذي مزق أنصاره نسخاً من المصحف الشريف قبل أيام، يعرف فضل الشرق، الذي لعب الإسلام دوراً كبيراً في بناء حضارته، على الغرب. ولا أعتقد أنه قد قرأ ما كتبه المؤرخ الكبير «وول ديورانت» في موسوعته الأثيرة «قصة الحضارة»، حيث روى تاريخ المدنيّة في خمسة أجزاء مستقلة، وأطلق على كل منها لفظ «تراثنا» ليبرهن من خلال هذه الـ«نا» والـ«نحن» على إيمانه بالإرث الإنساني المشترك، حيث بدأ التراث الشرقي، باعتباره أولًا تاريخ المدنية في مصر، وحين جاء إلى التراث الوسيط وضع الثقافة الإسلامية كجزء أصيل منه. ودافع عن اختياره الشرق نقطة لانطلاق الحضارات الإنسانية بقوله: «إن قصتنا تبدأ بالشرق، ليس لأن آسيا كانت مسرحاً لأقدم مدنية معروفة لنا فحسب، بل كذلك لأن تلك المدنيات كونت البطانة والأساس للثقافة اليونانية والرومانية، التي ظن (البعض) خطأ أنها المصدر الوحيد، الذي استقى منه العقل الحديث، فسيدهشنا أن نعلم كم مخترَعاً من ألزم مخترعاتنا لحياتنا، وكم من نظامنا الاقتصادي والسياسي، ومما لدينا من علوم وآداب، وما لنا من فلسفة ودين، يرتد إلى مصر والشرق... والتعصب الإقليمي الذي ساد كتابتنا التقليدية للتاريخ، الذي تبدأ روايته من اليونان، وتلخص آسيا كلها في سطر واحد، لم يعد مجرد غلطة علمية، بل ربما كان إخفاقاً ذريعاً في تصوير الواقع، ونقصاً فادحاً في ذكائنا». وعلى رغم التخلف المادي الذي أصاب الشرق في العصور الحديثة والمعاصرة، بينما أخذ الغرب بأسباب التقدم التقني، ووصل فيه شأناً عالياً، فإن المراكز الحضارية القديمة لا تزال تقدم رؤية مغايرة في الجوانب الروحية والفنية، علاوة على أن بعض دولها أخذت هي الأخرى تسرع على درب امتلاك صناعة متطورة تعتمد على أعلى مراتب التقنية ومراحلها. وهنا يقول الفيلسوف المصري الكبير زكي نجيب محمود: «نستطيع أن نقول على وجه الإجمال إن في العالم طرفين مختلفين من حيث النظرة إلى الوجود، طرف منهما يتمثل في الشرق الأقصى، الهند والصين وما جاورهما، ويتمثل الآخر في الغرب، أوروبا وأميركا، وبين الطرفين وسط يجمع بين طابعيهما، وهو الشرق الأوسط. وهي نظرة لا تنفي بطبيعة الحال أن يكون في الشرق علماء، وفي الغرب رجال فن ودين، ولكننا نطلق القول على وجه من التعميم الواسع، الذي يفسر بعض التفسير ما هو شائع على الألسنة من وصف الشرق بالروحانية، ووصف الغرب بالمادية». ويطرح عالم النفس الأميركي «ريتشارد إي نسيبت»، عدة أسئلة تحدد مجالات للتمايز بين الشرق والغرب، تفضي الإجابة عليها إلى الاقتناع بضرورة تحاورهما وتكاملها لينتهي إلى نتيجة بالغة الدلالة، حيث يقول: «نحن جميعاً نكون في مجالات ما أكثر شبهاً بأبناء شرق آسيا حيناً من الوقت، وأكثر شبهاً بالغربيين حيناً آخر. ولذلك لنا أن نتوقع أن تحولًا يطرأ على الممارسات الاجتماعية المميزة من شأنه أن يؤدي إلى تحول في الأنماط القياسية للإدراك والفكر. لهذا أؤمن بأن الاثنين سيلتقيان بفضل تحرك كل منهما في اتجاه الآخر. الشرق والغرب يمكن أن يسهما في نشوء عالم مزيج، حيث تتمثل الجوانب الاجتماعية والمعرفية لكل من الإقليمين، ولكن في صورة متحولة، تماماً مثل المكونات الفردية لطعام ما حيث يمكن تمييزها وإن تغيرت وتغير معها الكل. ولعلنا لا نبالغ في الأمل بأن هذا الطعام سيحتوي على أفضل ما في الثقافتين». لا يمكن أن يكون «ترامب» قد قرأ شيئاً عن تفاعل الإسلام مع حضارات الشرق القديمة، ولا عن المداميك التي أضافها للحضارات الإنسانية بما هضمه من حضارات سبقته وأضاف إليها. ولا يمكن إلا أن يكون «ترامب»، المشغول بأمواله وأهوائه، قد حصر الإسلام في أفعال بعض المتطرفين، وحتى هو في هذه الناحية لا يدرك أن كثيراً من الأديان والمذاهب والفلسفات والثقافات والأيديولوجيات قد أنتجت على مدار التاريخ متطرفيها، وبعضهم رفع السلاح في وجه الجميع مثلما تفعل «القاعدة» و«داعش» ومن على شاكلتهما. ولا يدرك «ترامب» أنه عنصري، وهو في هذه الناحية، لا يقل عن «الدواعش»، إن فهم أن بداية رفع السلاح في وجه المختلفين تبدأ بأفكار عنصرية، أياً كان مصدرها أو منبعها.