أنظر بتقدير إلى مبادرة الرئيس الفلسطيني محمود عباس عندما أطلق دعوة للتفاوض والسلام من خلال القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي. اختيار عباس لهذه القناة، في ذروة انتفاضة السكاكين المستمرة منذ أكثر من ستة أشهر رداً على العدوان الإسرائيلي على المسجد الأقصى، اختيار موفق، ذلك أن الهدف هنا هو مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي الذي يستشعر مخاطر أمنية على جنوده ومستوطنيه في الضفة الغربية. هذا الاستشعار الإسرائيلي للخطر يستغله المتطرفون في تأجيج مشاعر الكراهية ضد العرب من ناحية وللترويج لأهدافهم في ابتلاع الأرض وطرد سكانها إن أمكن ذلك، لذا فدخول الشعب الفلسطيني على خط مخاطبة جموع الإسرائيليين، يقدم بديلاً لهؤلاء غير بديل الكراهية والقتل المتبادل، ويمكن أن يدفع قطاعاً من الإسرائيليين إلى التفكير بشكل مختلف بحثاً عن الأمان، وهو طريق السلام. أعتقد أن سبب تقديري لمبادرة عباس أصبح واضحاً، لأني أحد الذين يتصورون أن المقاومة المشروعة للاحتلال يجب أن تجد قيادة تستثمرها في تحقيق مكاسب سياسية، وأن تعين الشعب الخاضع للاحتلال والقهر على قطف ثمار كفاحه المسلح. طبعاً نحن نتحدث هنا عن شعب فلسطيني مجرد من السلاح في الضفة، تحاصره الأسوار وقوات الاحتلال، وتخنق المستعمرات والمستعمرون حركته. لهذا لا يجد الشبان صغار السن من أمل لهم لإنقاذ الأرض والأهل والمقدسات الدينية، سوى أدوات المطابخ والطعام في بيوتهم ليقاوموا بها قوات الاحتلال فيما يعرف بانتفاضة السكاكين. ورغم تواضع الأدوات المستخدمة في المقاومة، فإن آثارها على المجتمع الإسرائيلي واضحة في إرسال رسالة تفيد بأن مقولة موشيه ديان وزير الحرب في عام 1967 لم تعد صالحة ولن تكون سارية على الشعب الفلسطيني. مقولة ديان بعد أن باغت الجيوش العربية المصرية والسورية والأردنية في الخامس من يونيو واستولى على سيناء والجولان والضفة الغربية وغزة، كانت مقولة تعكس الاستخفاف بالعرب. فقد قال: لقد مرَّت القوات الإسرائيلية في الأراضي المصرية والسورية والأردنية كما تمر السكين في قطعة الزبد. لقد تركت هذه المقولة أثرها على العقل الجمعي الإسرائيلي وولدت إحساساً جماعياً بجنون العظمة انكسر جزء كبير منه في حرب أكتوبر 1973، وعمل اليمين الإسرائيلي على تنمية الجزء المتبقي من جنون العظمة، وذلك بزرع فكرة «أرض إسرائيل الكاملة» التي تضم الضفة وإظهار عضلاته العسكرية ضد الشعب العربي فيها مع المراوغة السياسية حول رؤية السلام القائمة على إنشاء دولة فلسطينية بجوار إسرائيل. وفي الشهور الأخيرة تقدم اليمين خطوة جديدة نحو الأقصى ظاناً أن أسواره وقواته ومستعمراته وحواجزه العسكرية ستمرر له الاستيلاء على أحد مقدسات المسلمين، غير أن المادة التي توجد داخل جينات كل طفل عربي، مع خروجه من رحم أمه، استيقظت وأنتجت انتفاضة جديدة. لقد كانت رسالة عباس الجوهرية للإسرائيليين ملخصة في كلماته التالية. أنا لا أحب أن أرى طفلاً فلسطينياً يحمل سكيناً ويطعن إسرائيلياً. أعطوني السلام، وعليكم أن تفهموا كيف يشعر هذا الطفل الفلسطيني بالإحباط وفقدان الأمل. أحسنت يا عباس، فهذه الرسالة تخلق البديل للاحتلال والنهب في عقول بعض قطاعات العقلاء من الإسرائيليين، لينشط بينهم حوار داخلي عن بديل السلام مقابل الأرض المحتلة. لقد أحسن عباس عندما خاطب نتنياهو أمام شعبه قائلاً: لقد اقترحت عليك أن نلتقي لنصنع السلام. وذلك ليبطل ادعاء نتنياهو أنه لا يجد شريكاً في السلام.