من النادر أن ينتقل الجدل حول القضايا الطبية الخلافية إلى شاشات السينما ودور العرض، خصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بصحة الملايين، وبتعارض في وجهات النظر، وبتضارب في المواقف، حول فعالية وأمان بعض الممارسات الطبية اليومية، لكن هذا ما حدث بالفعل مؤخراً، عندما قررت لجنة أحد أشهر المهرجانات السينمائية في الولايات المتحدة (Tribeca Film Festival)، سحب ومنع عرض فيلم من قائمة أفلام المهرجان، حسب ما أعلن عنه الممثل الأميركي الشهير «روبرت دي نيرو» بداية هذا الأسبوع. والفيلم المعني، أو «فاكسد» (Vaxxed)، شارك في كتابته وإخراجه الطبيب البريطاني «آندرو وايكفيلد»، الذي ارتبط اسمه بواحدة من أكثر القضايا خطورة في تاريخ الطب الحديث، حول مدى أمان وسلامة ما يعرف بالتطعيم الثلاثي، والمستخدم للوقاية من التهاب الغدة النكفية، والحصبة العادية، والحصبة الألمانية. ففي عام 1998، كان هذا الطبيب هو الباحث الرئيسي في دراسة نشرت حينها في واحدة من أشهر وأعرق الدوريات الطبية (The Lancet)، وربطت بين التطعيم الثلاثي، وبين إصابة من يتلقونه بالتوحد، وباضطرابات في الجهاز الهضمي. هذه الدراسة أثارت حينها عاصفة من الجدل والخلاف، واحتلت مساحات واسعة من التغطية الإعلامية، وأدت إلى انخفاض ملحوظ في عدد الأطفال الذين يتلقون التطعيم. إلا أن الباحثين والعلماء، في مراكز علمية وجامعات أخرى، بعد تكرار نفس أسلوب ومعايير الدراسة، لم يحصلوا على نفس النتائج التي حصل عليها وايكفيلد وفريقه، وعجزوا عن تأكيد أطروحته، وهو أسلوب روتيني متبع في الأبحاث الطبية لمراجعة صحة ومصداقية نتائج الدراسات التي تحمل في طياتها تبعات مهمة وخطيرة. وفي عام 2004، أظهر أحد صحفيي جريدة «الصاندي تايمز» البريطانية، وجود تضارب في المصالح المالية، لم يعلن عنه الدكتور وايكفيلد في حينها، وهو المصطلح الذي يستخدم عندما يكون للباحث فائدة أو عائد مالي، من إيجابية أو سلبية نتائج الموضوع قيد البحث. بمعنى أن الطبيب الذي يقوم بالدراسة، سيستفيد مالياً، إذا ما كانت نتائج الدراسة تؤكد أو تنفي شيئاً ما، وهو ما يجعله عرضة لاستخلاص نتائج تتوافق مع مصالحه الشخصية، وفائدته المادية. وبناءً عليه، قام غالبية الأطباء الآخرين الذين دعموا نتائج الدراسة حينها، بسحب تأييدهم ودعمهم للنتائج النهائية، كما قام المجلس الطبي العام البريطاني، بإجراء تحقيق شامل حول نتائج الدراسة، خصوصاً أخلاقيات الممارسات التي تمت خلالها، ومدى اتباع المعايير العلمية في استخلاص نتائجها. وفي بداية عام 2010، أصدرت لجنة التحقيق المكونة من خمسة أشخاص قرارها بأن دراسة «آندرو وايكفيلد» تميزت بعدم المصداقية، وعدم المسؤولية، مع اتهامه بسلوك غير مهني، مخالف لمصلحة مرضاه، وفشله في القيام بمهامه وواجباته كطبيب. وبناءً عليه قامت الدورية الطبية سابقة الذكر، بسحب الدراسة المعنية، وهو إجراء يعني أن نتائجها كانت غير صحيحة، وينبغي أن لا يعتد بها في الممارسات الطبية اليومية. ولاحقاً، قرر المجلس الطبي العام، وهو الجهة المسؤولة عن ترخيص الأطباء في بريطانيا، سحب ترخيص وايكفيلد ومنعه من ممارسة المهنة مدى الحياة. والمصيبة الكبرى، أنه رغم شطب نقابة الأطباء البريطانيين للطبيب المسؤول عن الدراسة المزورة، ورغم خروج الجهات الصحية في مختلف دول العالم، الواحدة تلو الأخرى، لتكذب ولتفند مزاعم هذا الطبيب، ورغم سحب الدورية الطبية للدراسة والاعتذار عن نشرها، ومطالبة البعض بمقاضاة الطبيب المسؤول تحت قوانين الجرائم الجنائية، فلا زالت مستويات التطعيم في العديد من دول العالم، تشهد انخفاضاً ملحوظاً. ومؤخراً في الولايات المتحدة، أخذت القضية منحى سياسياً، يتعلق بالحريات والحقوق الشخصية، ليس ضد تطعيم الحصبة والتطعيم الثلاثي فقط، وإنما أيضاً حول فكرة فرض التطعيمات الطبية وإجبار الآباء عليها، والتي يعتبرها الكثيرون أحد أهم إجراءات الصحة العامة الهادفة للحد من انتشار العديد من الأمراض الفيروسية بين أفراد المجتمع، خصوصاً الأطفال، إلى درجة تصنيفها كواحد من أفضل التطورات والاختراقات التي حققها الطب الحديث، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق. لذا قامت منظمة الصحة العالمية في نهاية عام 2014، بإطلاق تحذير مفاده أن التقدم الذي أُحرز في مجال القضاء على فيروس الحصبة خلال الأعوام الماضية، قد توقف وأصابه الشلل، وربما حتى بدأت خطواته في التراجع والتقهقر، فحتى ثمانينيات القرن الماضي، كان فيروس الحصبة يقتل 2.6 مليون شخص سنوياً، غالبيتهم من الأطفال. هذه المأساة الإنسانية التي يقدر ضحاياها بأكثر من 200 مليون خلال مئة وخمسين عاماً الماضية فقط، بدأت حدتها في التراجع مع تطوير تطعيمات ضد الفيروس المسبب للمرض، إلا أن هذا النجاح الطبي الهائل على صعيد الصحة العامة، أصيب بنكسة شديدة، بسبب بحث مزور، أجراه طبيب افتقد النزاهة والمهنية والمصداقية.