دعا الرئيس «عبد الفتاح السيسي» عدداً من المثقفين للقائه في قصر الاتحادية لعقد لقاء فكري مفتوح يستمع فيه الرئيس لإدراكات المثقفين للمشكلات المصرية الراهنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد آثر الرئيس أن يكتفي في بداية اللقاء بكلمة موجزة وكلف الأستاذ «حلمي النمنم» وزير الثقافة بإدارة الحوار، وكنت أول من طلب الكلمة لأنني كنت جاهزاً بأفكاري التي سأعرضها بحكم أنني أشرف على بحث شامل يقوم به المركز العربي للبحوث عن التحليل النقدي للمشكلات المصرية الراهنة. وهكذا يمكن القول إن كلمتي التي ألقيتها أمام الرئيس، والتي استمع إليها باهتمام -كما فعل بالنسبة لباقي الكلمات ودون ملاحظات على ما سمع- كانت تعكس خبرتي كباحث في العلم الاجتماعي ومشرف على المشروع البحثي الذي أشرت إليه. الموضوع الأول في مداخلتي، أشرت فيه إلى توصيفي للدولة التي يقودها الرئيس «السيسي» بعد انتخابه رئيساً للجمهورية، بأنها «عودة للدولة التنموية»، وهذه الدولة -بحسب التعريف العلمي- هي التي تقوم بالتخطيط للتنمية المستدامة، كما فعل الرئيس حين أعلن رؤية مصر التنموية «20-30»، وتقوم أيضاً بتنفيذ المشروعات القومية الكبرى. والدولة التنموية التي أسسها الرئيس «السيسي» تتميز بأنها لا تستبعد القطاع الخاص في الإسهام في تنفيذ مشروعات التنمية، وإن كان رجال الأعمال سيعملون تحت إشراف الدولة ورقابتها منعاً لظهور شبكات الفساد، والتي تقوم عادة على الزواج المحرم بين أهل السلطة ورجال الأعمال كما حدث في السنوات الأخيرة من حكم «مبارك». والموضوع الثاني الذي أثرته في مداخلتي أمام الرئيس هو أن الدولة التنموية لن تستطيع النجاح في مشروعها بغير المشاركة الفعالة للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنخب السياسية والثقافية. وإذا عرفنا أنه عالمياً تم الاعتراف بأن عصر «الديموقراطية النيابية» قد وصل إلى منتهاه (راجع في ذلك كتاب عالم السياسة الأسترالي «سيمون تورمي» Simon Tormey «نهاية السياسة النيابية»، لندن، 2015)، فإن على الدولة التنموية أن تبدأ عملية تجديد مؤسسي شاملة بحيث تتحول الأحزاب السياسية إلى أحزاب تنموية لها رؤية محددة في الاقتصاد، وتقوم بالنقد الاجتماعي المسؤول لما تطرحه الدولة من استراتيجيات تنموية، وأبعد من ذلك عليها أن تشارك فعلاً في مجال مشروعات التنمية المتوسطة والصغيرة، وذلك سيكفل لها أن تحتك بالجماهير مباشرة. ومن ناحية أخرى على منظمات المجتمع المدني أن تتجدد ولا تقنع بالمطالبات الحقوقية التقليدية لأن حقوق الإنسان الاقتصادية لا تقل أهمية عن حقوق الإنسان السياسية، وعليها أيضاً أن تقوم بمساهمات تنموية وتنويرية للرأي العام. أما النخب السياسية الثقافية فعليها أن تجدد معارفها السياسية لتعرف التحولات العالمية الكبرى وأهمها على الإطلاق بروز حتمية تدخل الدولة في الاقتصاد، وبروز نمط «ديموقراطية المشاركة» (Participatory Democracy) والتى لم تتبلور مؤسساتها بالكامل حتى الآن. والموضوع الثالث الذي أثرته هو أن خطة التنمية لمصر «20-30»، والتي أعلنها الرئيس -وإن كانت منطلقاتها صحيحة وأهدافها مقبولة- إلا أنه كان ينبغي أن تركز في المقام الأول على مشكلات مصر الكبرى. ولو عرفنا أن معدل الأمية في مصر 26%، وأن 26 مليون مصري تحت خط الفقر، وأن 18 مليون مصري في العشوائيات، وأن معدل البطالة، خصوصاً بين الشباب، مرتفع للغاية، لأدركنا أنه كان ينبغي على الخطة أن تركز أولاً على هذه المشكلات، وأن تستخدم لغة التخطيط، وتقرر أنه سيحدث كذا في الأجل القصير، وسيحدث كذا في الأجل المتوسط، وسيحدث كذا في الأجل الطويل.. وذلك حتى يتشكل وعي الجماهير بصورة علمية، وألا نتوقع مثلاً أنه يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية -وهي أحد مطالب ثورة 25 يناير 2011- في عامين مثلاً، مع أنها تحتاج إلى مدى طويل حتى تتحقق على أساس صياغة كل أنساق المجتمع المصري. وأضفت أنه كان ينبغي أن تطرح رؤية التنمية المستدامة على حوار مجتمعي، لأن مشروع «قناة السويس» الذي حظي بتأييد شعبي غير مسبوق لم يحظ به مشروع «إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة»، والذي ليس عليه إجماع لا من الخبراء ولا من الرأي العام. وأخيراً أشرت إلى خطورة الازدواج التعليمي في مصر بين تعليم ديني يقوم على النقل وليس على العقل، وتعليم مدني مشوه، بالإضافة إلى ازدواجية التعليم بين التعليم الوطني والتعليم الأجنبي، والذي يتمثل في العديد من المدارس والجامعات الأجنبية.