هل كان تَهَدُّل رسغ أوباما عندما رفع ذراعه كاسترو أمام عدسات التلفزيون محاولة للتملص من صورة تنطبع في الأذهان عن أول زيارة يقوم بها رئيس أميركي لكوبا بعد 88 عاماً من القطيعة والصراع، أم هي إشارة إلى اعتراف الزعيمين الأميركي والكوبي بالتعادل في مباراة ملاكمة بين بلديهما استغرقت أكثر من نصف قرن؟ هذه من أظرف تساؤلات مراقبي الزيارة التاريخية، التي تَسيّدَتها مباراة «البيزبول» المحبب للبلدين. و«لا أنكر أن ما يحدث لنا أمر يستحق الضحك، إلاّ أنه لا يستحق الذكر، إذ ليس كل شخص نبيه بما يكفي لرؤية الأشياء من وجهة النظر الصحيحة». قال بطل الرواية الإسبانية «دون كيخوته» الذي يتوقع «أن لا يستمر الخير، ولا الشر، إلى الأبد، وبالتالي فالشر دام فترة طويلة، والخير ينبغي أن يكون الآن في المتناول». هدف الزيارة يتجاوز كوبا وأميركا على حد سواء، إذا تذكرنا تأكيد أوباما في حديثه لمجلة «أتلانتيك» على التحول المحوري للسياسة الأميركية من منطقة الشرق الأوسط إلى شرق آسيا وأميركا اللاتينية. وهل أجمل من «هافانا» منبراً للإعلان عن التحول المحوري.. وكل من فتحت الثورة الكوبية عام 1959 عينيه على العالم يرى في اللقاء التاريخي بين زعيمي بلد شيوعي وآخر رأسمالي تلويحة الجزيرة الطروب، التي جعلت من القصيدة الغزلية «غوانتاناميرا كوبا» أغنية ثورة يرددها عددٌ من أكبر مغني العالم. و«غوانتاناميرا» تعني فتاة من بلدة «غوانتاناميرا»، وهي عنوان قصيدة كتبها زعيم كوبا التاريخي «خوسيه مارتيه» في القرن التاسع عشر، وتصعب معرفة ما إذا كان لحنها، والذي يتردد في الذهن (وأترجم هنا بعض كلماتها)، هو نشيد الثورة أم طرب المحب: «غوانتاناميرا أنا رجل صادق، جئت من حيث تنمو أشجار النخيل، وقبل أن أغادر الحياة أشتاق إلى أن أصوغ من روحي الأشعار. أزرع وردة بيضاء كالثلج، لصديق متفتح القلب، يمد يد العون. الكلمات التي أكتبها قرمزية مُشّعة، وزُمردية متوهجة. وأشعاري ظبيٌ جريحٌ يبحث عن مأوى في أعالي الجبال». وزيارة الرئيس الأميركي كوبا كمصاولة «دون كيخوته» طواحين الهواء، ليس في هافانا إنما في واشنطن، فليس في هذه الجزيرة الحسناء، التي كانت واشنطن تهددها بالمحو النووي، صواريخ عابرة للقارات ولا أسلحة نووية. والكوبيون أنفسهم لم يعودوا كما كانوا خلال الستينيات، حتى في «فلوريدا» التي تضم أكثر من مليون كوبي، تحول معظمهم من مناهضة هافانا، وتمويل الانقلابات ضدها، إلى المطالبة بتسهيل إجراءات سفرهم إلى كوبا، وتحويلاتهم المالية إليها. وذكر «داميين كييف»، مدير مكتب «نيويورك تايمز» في «ميامي»، أن أوباما غلّبَ العواطف على الأيديولوجيا قبيل انتخابه للرئاسة أول مرة، و«من يعارض جمع شمل الأسر الكوبية؟». وفي «جامعة فلوريدا الدولية» في ميامي، والتي تكتظ بأبناء وأحفاد المنفيين الكوبيين، التقى المراسل بالطالبة «أناليز فايفيه» التي جاءت من كوبا قبل سنتين، بعد انتظار سبع سنين للحصول على الفيزا، وأخبرته أنها تخطط للعودة حالما تستطيع: «نحن هنا ليس لأجل مستقبلنا فقط، بل لأننا نريد العودة لمساعدة بلدنا»، ثم انهارت باكيةً. وزيارة كوبا، كاختراق رونالد ترامب الحزب الجمهوري، مصدر كليهما حركة الفالق الزلزالي في السياسات الأميركية والعالمية، وكما في جيولوجيا الانزلاق القاري، الذي يستغرق عقوداً عدة، وقَعَ ما حَذَّرَ منه فيديل كاسترو عند افتضاح مؤامرة «سي آي إيه» لاغتياله في ستينيات القرن الماضي: «إذا قتلتموني سيأتي من بعدي تشي غيفارا، وإذا قتلتم غيفارا سيأتي راؤول كاسترو.. والويل لكم من راؤول»! وما أشد ويلاً من معانقة راؤول وباراك عند الوداع في مطار هافانا!