سحر الرئيس الأميركي باراك أوباما الأرجنتينيين برقصه «التانجو» أثناء زيارته إلى الأرجنتين الأسبوع الماضي، بيد أن هذه الرحلة ربما يتم تذكرها بما أهم من ذلك بكثير: فهي ربما تمثل بداية دورة جديدة من عرى الروابط المتينة بين الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية. وسواء أكان الأمر مقصوداً أم أنه الحظ، فإن أوباما سيترك منصبه وقد تغير وجه أميركا اللاتينية تغيراً كاملاً مقارنة بالمنطقة الشعبوية «اليسارية» التي ورثها قبل سبعة أعوام، وأصبح الآن للأرجنتين رئيس جديد ينتمي إلى «يمين الوسط» هو «ماوريسيو ماكري»، الذي رحب ترحيباً حاراً بأوباما، وفازت المعارضة الفنزويلية في الانتخابات التشريعية باكتساح في ديسمبر الماضي، موجهة ضربة خطيرة للرئيس اليساري الراديكالي «نيكولاس مادورو». ومُني الرئيس الشعبوي في بوليفيا «إيفو موراليس» بهزيمة كبيرة في استفتاء أخير حول الترشح لفترة رئاسة رابعة على التوالي، وأما الرئيسة البرازيلية التي تنتمي إلى يسار الوسط، «ديلما روسيف» فتخوض معركة صعبة من أجل النجاة من إجراءات سحب الثقة. وثمة تكهنات متزايدة في الدوائر الدبلوماسية أنه بحلول يناير 2017، عندما يغادر أوباما السلطة، ربما تخضع الخريطة السياسية لأميركا اللاتينية لحكومات داعمة للاستثمار، وصديقة للولايات المتحدة في الأرجنتين والبرازيل والمكسيك وكولومبيا وبيرو، وعدد من الدول الأخرى. ولعل هذه مفارقة، لأن أوباما، الذي اختار آسيا كي تكون «محوراً» لسياسته الخارجية، لم يبد أبداً اهتماماً خاصاً بأميركا اللاتينية، وعندما أجريت حواراً معه للمرة الأولى أثناء الحملة الرئاسية في عام 2007، أكد أنه لم يقم بأية زيارة إلى المنطقة، ولا يمكنه أن يتذكر اسم أي رئيس في أميركا اللاتينية لا يزال في السلطة. بيد أن زيارة الرئيس أوباما إلى كل من كوبا والأرجنتين الأسبوع الماضي ربما يذكرها التاريخ بأنها بداية دورة جديدة من التاريخ في أميركا اللاتينية (ولا أستخدم هنا كلمة «عصر» لأن الاتجاهات السياسية في أميركا اللاتينية قلما تستمر أكثر من خمسة أعوام)، وربما نطلق عليها اسم «دورة ما بعد الشعبوية» أو «الدورة البراجماتية»، أو نهاية دورة الانعزالية الاستبدادية في أميركا اللاتينية. ويُنسب لأوباما بعض الفضل في ذلك، فتطبيعه للعلاقات الدبلوماسية مع كوبا، ورحلته إلى الجزيرة الأسبوع الماضي مع وفد من رجال الأعمال الأميركيين، ورفضه للديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين في سبعينيات القرن الماضي، وتعهده برفع السرية عن المراسلات المخابراتية الأميركية التي تعود إلى تلك الحقبة المظلمة من تاريخ أميركا اللاتينية تساعد في إبطال بعض الأساطير المتأصلة عن اليسار القديم في أميركا اللاتينية. ويبطل أيضاً انفتاح أوباما دبلوماسياً واقتصادياً على كوبا مبرر أن الديكتاتورية العسكرية هناك لا يمكنها السماح بإجراء انتخابات حرة وحرية التعبير والتظاهر، لأن الجزيرة معرضة لتهديد الهجوم العسكري الأميركي، وبعد إيماءات أوباما تجاه نظام «كاسترو»، يبدو أن هذا المبرر أصبح أكثر سخفاً من ذي قبل. وبدا أنه لا مجال للحرس اليساري القديم في الأرجنتين، الذي خرج في مظاهرات كبيرة ضد أوباما أثناء زيارته التي تزامنت مع الذكرى الأربعين للانقلاب العسكري في الدولة عام 1976، بلومه الولايات المتحدة واعتبارها المجرم الرئيسي والمسؤولة عن تلك الحقبة المظلمة في تاريخ الأرجنتين. وفي الحقيقة، رغم أن واشنطن تغاضت عن انتهاكات حقوق الإنسان في الأرجنتين أثناء الأشهر الأولى من الحكم العسكري، فإن ذلك تغير تماماً بعد تولي الرئيس الأميركي الأسبق «جيمي كارتر» السلطة في بداية عام 1977، وأتذكر ذلك جيداً، لأنني غادرت الأرجنتين إلى الولايات المتحدة في عام 1976، وبحلول عام 1977، أدانت الولايات المتحدة انتهاكات حقوق الإنسان في لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ورغم ذلك يكمن السبب الرئيس وراء التحول السياسي الحالي في أميركا اللاتينية إلى الظروف الاقتصادية، فبعد انتهاء ازدهار السلع العالمية الذي ساعد الدول اللاتينية على النمو بعد عام 2000، وأضحت دول المنطقة في حاجة ماسة للاستثمارات الأجنبية وتجديد العلاقات التجارية، انتهى مهرجان الشعبوية لأنه لم تعهد هناك أموال لدفع تكاليفه. وأرى أن التاريخ الأميركي اللاتيني من المرجح أن يذكر أوباما بأنه رئيس جيد للمنطقة، رغم أنه لم يقض وقتاً أو يخصص جهداً لها، وسيكون عاراً تاريخياً، إذا أخفق الرئيس الأميركي المقبل، الذي سيرث منطقة أكثر صداقة مما ورثه أوباما، في مد جسور اقتصادية جديدة، بدلاً من أسوار عالية، لصالح كلا الطرفين. يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفيس»