على غلاف مجلة «ديرشبيجل» الألمانية (العدد الخامس لعام 2016)، نطالع صورة المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب وتحته كلمة كبيرة بالخط الأحمر: الجنون. ومن الملفت للنظر أن العدد احتوى بحثاً في غاية الأهمية والإثارة عن المرض النفسي (الفصام = الشيزوفرينيا)، وآخر بعنوان «جذور الجنون». وأشار البحثان إلى بحث نشرته مجلة «الطبيعة» العلمية في يناير 2016، للباحث «ستيفن مك كارول» والباحثة «بيث ستيفنسن»، وهما من معهد ستانلي للأبحاث النفسية في مدينة بوسطن. وقصة هذا المعهد تعود إلى قصة الشاب الجامعي «جوناثان ستانلي» الذي شرد لعدة أيام في نيويورك بدون طعام ولا شراب ولا مال، حتى آوى إلى متجر صغير، وهناك فقد عقله نهائياً حين خلع ملابسه بالكامل، وبدأ يدور بين الناس عرياناً يضحك ويكلم نفسه. اتصل صاحب المحل بالشرطة فألقت القبض على الشاب لتكتشف أنه يعود لعائلة مرموقة، فأبوه هو الملياردير المعروف «تيد ستانلي». حين عاد الشاب إلى أبيه، عانقه بحنان وأقسم أن يوجد حلاً لمرض ابنه. قام الوالد بخطوة نادرة في تاريخ العلم، فكرّس مبلغ 825 مليون دولار للبحث في ظاهرة الفصام وأسبابه والبحث في علة ولده بالدرجة الأولى. وقال رئيس الفريق البحثي في المعهد، «ستيفن مك كارول»: إذا كان البحث يتطلب المزيد من الدراسات الجينية، فلنذهب باتجاه سحر الأرقام، وإذا لم نعثر على أثر المرض في مائة شخص، فلنضاعف الرقم إلى ألف، بل مائة ألف، وهكذا وبفضل توظيف ملايين «ستانلي» في البحث، فقد طبق الفريق البحثي هذه الطريقة الجبارة على مائة وخمسين ألف شخص في دراسة نظام الجينات لديهم، منهم 37 ألف شخص مشخص عندهم الفصام. وهكذا، ومن خلال بحث دؤوب ولسنوات، أمكن وضع اليد على السر. كانت المفاجأة أكبر من التوقع، حيث وجد الباحثون، وبمقارنة الجينوم السليم بنظيره عند أصحاب الفصام، أن هناك حوالي 108 أمكنة تعاني من خلل في بنائها، خاصة في الكروموسوم السادس. هذه المنطقة المكتشفة والمسؤولة عن خلل الدماغ عند مرضى الفصام تتوضع في مكان معروف لعلماء الجينات: إنه المكان المفضل لجينات الجهاز المناعي. ومن هنا عثروا على بروتين خاص أعطي اسم (C4) يقوم بوظيفة مهمة للغاية في لعبة الجهاز المناعي، يطلق عليها اسم «افترس»! إذ لاحظ العلماء أنه يحرض الخلايا البالعة في الجهاز المناعي على الانتباه للخلايا الضارة، فيهاجمها الجهاز المناعي بخلايا اسمها «البالعات» ويفتك بها. حسناً، لكن ما علاقة هذه بمرض الفصام، وما علاقة الأخير بالدماغ؟ هذا ما كشفت عنه باحثة من قسم طب الأعصاب في جامعة بوسطن، هي «بيث ستيفنسن»، حيث عثرت على وظيفة جديدة يقوم بها البروتين (C4). فقد قالت في البحث الذي نشرته مع «مك كارول»، إن ذلك البروتين يحرض الخلايا البالعة هنا أيضاً تحت قانون «افترس»، فيهاجم الخلايا العصبية وفي المكان الحساس جداً المعروف باسم السنابس. إن تركيب الخلايا العصبية (النورونات) ليس مثل بقية خلايا الجسم، فكل خلية تشبه النجم بأشعة من استطالات وأذرع تسمى الأكسونات، وفي نهاية كل استطالة تبرز قدم تلتصق مع الخلية المجاورة وتتفاهم كيماوياً بحوالي أربعين حرفاً من لغة كيماوية معقدة، وحين يضرب البروتين (C4) النهايات العصبية (السينابس) فهو عملياً يحرق الدماغ بقطع اتصالاته، فيتفكك الدماغ ويقصر عن تفهم الأشياء مترابطة (الوعي الإنساني)، وهذا هو الجنون حين يقول المرأ: تغديت البارحة في المريخ!