عندما نصبت جامعة الكوفة (2012) محاكمةً لهشام بن عبد الملك (ت 125هـ) ثأراً لزيد بن علي (قُتل 121هـ)، كنت بين مصدق ومكذب، لكثرة ما يُدس من أخبار في وسائل التواصل الاجتماعي. لكن الحقيقة كانت صادمة.. أن يقوم أساتذة الجامعة بتمثيل الأدوار على المسرح. عندها أدركتُ كم عاطفة الثأر بعيدةً عن إعمار وطن مِن أغنى البلدان وشعبه مِن أفقر الشُّعوب، مع أن الثأر قد أُخذ مِن الأمويين مضاعفاً عندما وقف سُديف بن ميمون (قُتل 146هـ) أمام أول خليفة عباسي قائلاً: «جرِّد السيف وارفع السَّوطَ حتَّى لا ترى فوق ظهرها أُموِيَّا» (المُبرد، الكامل في اللغة والأدب). كنت نشرت مقالاً في «المؤتمر» بعنوان «لا تسمعوا لنصيحة سُديف الشاعر»، بُعيد سقوط بغداد بأيام (16 أبريل 2003)، قلقاً على فرصة قد لا يسمح بها الدهر ثانيةً، غير أن المنتقمين مذهبياً مالوا إلى رأي سُديف، وبدأ الانتقام بمغنٍ وضابط وطبيب، فالتحمت كائنات الشَّر بمعارك طائفية راح ضحيتها الألوف قتلاً وتهجيراً. حينها قلنا نزوة طائفية وتذهب، إلا أنه بعد أربعة أعوام على تمثيل محاكمة الأمويين، في حرم جامعة الكوفة، فوجئنا بتمثيل ما أصطلح عليه بـ«كسر ضلع الزَّهراء» في حرم الجامعة المستنصرية، وعليه نقيس تدهور التعليم ببلادنا، ليوجه هذه الوجهة الخطيرة، بممارسة ما كان يمارسه العوام، ووقف ضده بشجاعة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954)، بخطاب استمر أكثر من ساعة، وفي صحن العتبة العلوية بالنَّجف (محاورة الإمام المصلح محمد الحسين مع السفيرين البريطاني والأميركي في بغداد)، ولأنه كان مصلحاً صلى خلفه عشرة آلاف سُني، بدعوة من مفتي القدس أمين الحسيني (ت 1974)، يوم اجتمع علماء السُّنَّة والشِّيعة بالقدس (1931) لنصرة الفلسطينيين (الثَّعالبي، مؤتمر القدس). بيد أن الممارسة التي أوقفها كاشف الغطاء، عادت من بوابة التعليم العالي، وتفرغ لإحيائها أساتذة الجامعة، ولم يصدر من وزير التعليم العالي ولا من رئيس الجامعة ما يعيد لدُور العلم هيبتها، فلم يكتفوا بتحول الجامعات إلى أماكن لتسيير المواكب في عاشوراء وإنما جعلوها دار فتنة طائفية، بنبش الماضي والعيش عليه، وبذلك قدموا الإمام الحُسين وأحفاده بهذه الصُّورة الشّوهاء، مع أن التاريخ مملوء بالمختلقات، وليتهم سمعوا لبيت النجفي محمد صالح بحر العلوم (1992): «إن كدرت نُدب الزَّمان صفاءنا/ فلنا بدفن الماضيات صفاء» (الخاقاني، شعراء الغري). لكن هؤلاء يريدون من البسطاء الاستمرار برفعهم إلى سدة الحُكم بزيادة الجهل، ولله درُ القائل: «إنما هذه المذاهبُ أسبابٌ/ لجذب الدنيا إلى الرؤساءِ/ غرض القوم مُتعةٌ لا يرقو/نَ لدمع الشَّماء والخنساء» (المعري، لزوم ما لا يلزم)، فلا يهمهم كثرة الثكالى والأيتام في الحرب الطائفية. استند مَن يحتفل باستشهاد السيدة فاطمة الزهراء، على كتاب «أسرار آل محمد» المنسوب إلى سُليم بن قيس الهلالي (ت 76هـ) والصادر بمدينة قُم (1420هـ)، وحسب مقدم الكتاب، محمد باقر الزَّنجاني، فإنه أول كتاب عقائدي حديثي تاريخي. خلاصة الحادثة مثلما قرأتها في الكتاب، وبعنوان «شهادة فاطمة الزَهراء»: اُقتحمت دارها، وأُضرمت النَّار فيها، ووُخِز جنبها بالسيف، وضربت بالسوط، فماتت وسقط جنينها، وأُخذ زوجها معتقلاً، ولم يتمكن من حمايتها. قبل أن آتي بتفنيد هذا الكتاب من قبل كبير في المذهب الإمامي أسأل: هل أغفل واضع الحكاية شجاعة علي بن أبي طالب (اغتيل 40هـ)، أن تضرب وتُقتل زوجته أمامه، ألم تكن الحكاية موجهة ضده قبل غيره؟ ولماذا إظهاره بهذا الانكسار، وكان من ألقابه «حيدرة» و«الصميدع»؟ وكيف تعايش مع خليفتين نُسبت إليهما الحادثة؟ كذلك جاء في الكتاب: أن علياً طلب البيعة ولم يبايعه إلا أربعة أنفار، أليس تلفيق هذه الرواية ضده أيضاً؟ بمعنى أنه كان غير مرغوب فيه! وكيف يوصى إليه، حسب عقيدة المذهب الإمامي، بخلافة النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو بهذه الدرجة من قلة المؤيدين بين الأنصار والمهاجرين؟! يقول الشَّيخ المفيد في أكذوبة الكتاب: «غير موثوق به، ولا يجوز العمل به على أكثره، وقد حصل فيه تخليط وتدليس، فينبغي للمتدين أن يجتنب العمل بكل ما فيه، ولا يعول على جملته والتقليد لرواته» (تصحيح اعتقادات الإمامية). أتعلمون مَن هو المفيد؟ إنه محمد بن محمد النُّعمان العكبري (ت 413هـ)، مؤسس المرجعية، وعليه وغيره استند محمد حسين فضل الله (ت 2010) باستنكار الحكاية. أيترك الأخذ برأي المفيد ويؤخذ ما يساير الغوغاء؟! ولماذا يشاع ما يورث الحزازات الطَّائفية، والعراق يعيش فترة حرجة من تاريخه؟ لو حصل مثل هذا في ظل حكومة تحترم نفسها، فإنها لن تتأخر عن إقالة وزير التعليم العالي ورئيس الجامعة. أقول: يا خيبة العراق بتعليمه العالي! ويا خيبة المستنصرية واسمها العريق بكسر ضلوعنا طائفياً.