هناك عوامل كثيرة دفعت باتجاه تحقيق تقارب عربي- روسي، فكما أن للقوى العظمى الحق في البحث عن صداقات جديدة في منطقة الشرق الأوسط، فمن حق الدول شرق الأوسطية أيضاً، وبالتحديد العربية منها، أن تبحث لها هي أيضاً عن تحالفات جديدة وشراكات واسعة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وأن تستقطب شركاء جدداً أكثر فاعلية ومرونة، وربما أكثر تفهماً لتطلعات ودواعي قلق شعوب المنطقة، وربما يكونون أيضاً أقل تطلُّباً ومعاكسة بكثير. وفي الماضي القريب كانت روسيا تلعب بالورقة الإيرانية في المنطقة وتناور بها في وجه نفوذ الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها حتى لا يكونوا منفردين في التأثير على توجهات وقرارات المنطقة. وبعد نجاح الأميركيين في ترويض الإيرانيين وضمهم في صفهم، بات من الضروري أن يقوم الروس أيضاً بتغيير المعادلة بما يضمن حفاظاً على التوازن مع الغرب الذي تبحث عنه موسكو في جميع المحافل الدولية، والنظم الإقليمية، وهو ما يصادف أيضاً رغبة مقابلة لدى الأطراف العربية في تنويع الشراكات، والإمساك بزمام المبادرة الإقليمية لمواجهة التحديات الكثيرة المطروحة على المنطقة الآن. إن لدى روسيا قناعة تصل إلى حد اليقين بأن دور الإمارات كطرف رئيسي ومؤثر في تطورات منطقة الشرق الأوسط يكتسي أهمية كبيرة، وكل الأطراف والقوى الدولية الكبرى الأخرى تعي أن الإمارات تلعب دوراً رئيسياً وبنّاءً في العمل على ضمان الاستقرار الإقليمي، وإضافة إلى ذلك فقد شهدت طبيعة العلاقات الإماراتية الروسية خاصة تطوراً كبيراً، وأخذت منحى آخر من الشراكة أكثر مرونة وأهمية وجدوى اقتصادية وسياسية للطرفين، باعتبار أن الشراكات مع الإمارات تكتسي طابعاً مؤثراً في صُلب وقلب الاقتصاد الروسي، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين ما يزيد عن المليارين ونصف المليار دولار، فيما يبلغ حجم الاستثمارات المتبادلة 18 مليار دولار. وفي سياق الاستجابة لتحديات الأزمات الإقليمية يعول كل من الطرفين على الآخر للعب دور ذي معنى وجدوى في احتواء جموح النزاعات والصراعات الإقليمية المحتدمة، وفي مقدمتها الصراع السوري، على رغم حالة عدم التفاؤل العامة لدى المراقبين تجاه فرص حلحلة الأزمة، ومراوحتها دون تقدم ذي شأن على أرض الواقع رغم الهدنة الهشة، ما ينذر بتأجج آخر محتمل في أية لحظة، وهو ما تخشاه الإمارات وتحرص على أن تمنع أي تأثيرات سلبية تطال المنطقة أو شعوبها، وبطبيعة الحال تسعى أيضاً، قبل هذا وذاك، لوقف نزيف الدم الذي أرهق الشعب السوري الشقيق. وفي سياق آخر متصل بقراءة تحولات الموقف الروسي في سوريا، بعد الانسحاب الجزئي للقوات الروسية من الأراضي السورية ظهر عديد من الأصوات التي تتحدث عن الخسارة الروسية في الميدان السوري، فيما وصفت أخرى الانسحاب بالتكتيك السياسي الذي يراوغ من أجل الحصول على مكاسب أكثر بأقل التكاليف، وخاصة بعدما حقق «الدب الروسي» أهدافه في المنطقة، وفرض نوعاً من إعادة توازن القوى فيها خدمة لمصالحه، ولعل وصف انسحاب روسيا بالتكتيكي يستند على كونه اقتصر على سحب جزء من القوات دون غيرها، ومعدات يمكن إرجاعها متى ما استدعى الأمر ذلك، حيث غادرت بعض القوات وبقيت أخرى، وهذا التكتيك في الغالب أداة تفاوض، ويمكن تغيير حجم القوة الروسية في سوريا بسهولة، بالاعتماد على الكيفية التي ستسير بها المحادثات فيما بعد حول الأزمة السورية. بل إن ثمة من المراقبين من يرى أن تاريخ روسيا ومواقفها في أوكرانيا يشيران إلى إمكانية عدم حدوث الانسحاب الروسي من سوريا، وإمكانية العودة في أي وقت تتطلب فيه مصالح موسكو التدخل من جديد للحفاظ عليها، ويرى آخرون أن من ضمن أهداف تدخل روسيا أصلاً إثبات عودة الجيش الروسي إلى الصورة على صعيد توازنات القوى الدولية، وكان هذا أمراً مهماً بالنسبة للجيش الروسي، وخاصة أن الكرملين يحرص بشكل خاص على أن يكون الجيش الروسي واجهة التحديث، وأن تكون قوّته مصدراً من مصادر دعم النظام السياسي في الداخل الروسي نفسه، هذا علاوة على العمل لاستعادة سمعة روسيا ككل وهيبتها ومكانتها العالمية، وإثبات موقعها كدولة عظمى ذات وزن مهم على الساحة الدولية، وخاصة بعد استخفاف الولايات المتحدة بها في الموقف الذي عبر عنه الرئيس أوباما عندما وصف روسيا استصغاراً بأنها «قوة إقليمية»، وربما جاء التدخل أيضاً في بعض أوجهه كتدريب للقوات الروسية وكاختبار لكفاءة ودقة وقوة تدمير بعض الأسلحة والمعدات الحديثة التي وجدت فرصة لاختبارها في الميدان السوري، كما أتاح أيضاً رداً على أوروبا في سلوكها السلبي في التعامل مع روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، وذلك برفع سقف تصعيد المواجهة في سوريا، وهو ما أدى، بعلاقة سببية من نوع ما، إلى تهجير وتوجيه أكبر عدد ممكن من اللاجئين السوريين باتجاه أوروبا، ضمن موجة تدفق أثقلت كاهل الاتحاد الأوروبي الذي أوشك على التهشم تحت ضغط أزمة اللاجئين الجارفة.