تعج محطة «دوسلدورف» للقطارات بالمسافرين والمتسوقين على حد سواء، ومع ذلك، تشهد اليوم تحليق الكلمات العربية في سماء صالتها ومحلاتها، ولم يكن لأحد أن يقطع خطواتي فيها إلا أشخاصاً تسأل باللغة الألمانية أو الإنجليزية عن حاجة ما، إلى أن كثر لسان السائل فيها باللغة العربية وتحديداً من سوريا والعراق. ليس ذلك فقط ما يستدعي أبعاد الثورة السورية في هذه المحطة لدى شخص ملم بالحد الأدنى من قضايا الشرق الأوسط، بل ما إن تشاهد متجر dm للمستلزمات المنزلية والشخصية والغذائية، إلا وتتذكر صراع الأتراك والأكراد كأحد القضايا المرتبطة بالشرق الأوسط، ويرجع ذلك لكون الأتراك في ألمانيا، كانوا قد دعوا أتباع جلدتهم الأتراك إلى مقاطعة سلسلة محلات dm المتعاطف مع القضية الكردية، والتي كانت قد جمعت تبرعات مادية لصالح جمعية كردية، ولا تتوقف القضية الكردية عند الأتراك، فهي تتحرك عبر مسارات صراعية وتعاونية متعددة باتجاه سوريا والعراق وتركيا إلى توقفها في إيران، وليس غريباً أن تزداد الإجراءات الأمنية بهذه المحطة لقرب مدينة دوسلدورف «وهي مركز ولاية شمال الراين وستفاليا» من هولندا وبلجيكا التي تعرضت مؤخراً لعملية إرهابية، قطعاً، سوف تتزايد وتقوى مظاهرات الجماعات اليمينية الألمانية المناهضة للأجانب وللإسلام. إذا كانت محطة قطارات في مدينة ألمانية «تعد ضمن أفضل مدن العالم في مستوى المعيشة» وتبعد كل البعد عن سوريا، تحمل الكثير عن شأن سوريا والشرق الأوسط لمسافر أو زائر من خلال احتضانها اللاجئين «السوريين والأكراد والعراقيين» مع شريحة كبيرة من العاملين من دول الشرق الأوسط، فإن مغادرة جزء مهم من القوات الروسية في سوريا يعد بمثابة محطة جديدة لانطلاق طرق ومسارات إقليمية ودولية. قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 14 مارس الحالي بسحب القسم الأكبر من القوات الروسية في سوريا يقدم مسارات جديدة على المستوى الإقليمي والدولي، فمن الواضح أن هذا القرار المفاجئ يُقوض القول بأن الجانبين الروسي ونظام بشار اتخذا هذا القرار لأن القوات الروسية أنجزت مهمتها، فالخطوة الروسية ربما تأتي كرد مناقض لتصريحات نظام بشار المتعددة التي تدور حول التمسك بالسلطة وعدم رحيل بشار، وأن ليس هناك انتخابات رئاسية وبرلمانية دون إشراف الحكومة السورية، فالخطوة الروسية لمجرد سحب قوات عسكرية وإبقاء أخرى في مواقع سورية، تغير من صورة موسكو المناصرة لديكتاتورية نظام بشار، وتحيي عملية مفاوضات جنيف، حيث ستقود إلى إضعاف نظام بشار وستضع مصيره كنتيجة لاتفاق دولي بقيادة موسكو وواشنطن مع أطراف دولية وإقليمية. وسيكون لهذا التحول الروسي القدرة على التخلص من بعض الضغوط السياسية والاقتصادية، فهناك ضغط دولي وإقليمي في إنجاح المفاوضات وعدم إبقاء نظام بشار، كما أن «موسكو» تريد عدم تجديد العقوبات الأوروبية المفروضة عليها بسبب قضية القرم، إضافة إلى حقيقة أن انخفاض أسعار النفط ألقى بظلالهِ على القوة الروسية، مما جعل مسألة رفع الأسعار أولوية في استراتيجيات القوة الروسية، والذي يحتاج إلى وجود توافق سياسي في الوضع السوري مع قوى تستطيع رفع الأسعار من خلال وضع سياسة تصديرية. ومن المسارات المهمة كون الدب الروسي يقطع فكرة أنه قد يمتطى من قبل الطموح التوسعي الإيراني في المنطقة، وهنا لنا أن نتذكر بأن طهران قد أعلنت عن طريق أحد أبواق نظامها «وما أكثرهم» بأنها ستتدخل في اليمن بشكل مباشر من خلال الدب الروسي لدعم «الحوثيين»، كما أن هذا الانسحاب يجعل القوى الإيرانية المقاتلة لإرادة الشعب السوري في حالة من الضعف والخوف، فالكل يعلم مدى القوة الروسية العسكرية والسياسية والقانونية المتمثلة بالفيتو، فالمحور الذي يجمع كلاً من موسكو وطهران ونظام بشار ونظام بغداد ومليشيات شيعية مقاتلة متعلق بشكل رئيسي بالقوة الروسية وسياساتها ومصالحها، وليست موسكو بمحطة تزويد وتعزيز للقوة الإيرانية. يقضي تحليلنا هنا أن موسكو تفتح مسارات جديدة بقرارها هذا، منها تفضيل العملية السياسية في مستقبل الثورة السورية من خلال التقارب مع واشنطن والغرب عموماً، ورفع العقوبات الأوروبية عنها، إلى جانب رفع أسعار النفط، والحد من التمدد الإيراني في المنطقة العربية، وقدرة روسيا على الدخول في حروب والخروج منها، ويبقى هناك مسار مغلق في قضية القرم يرجع لمقتضيات أمنية بأبعاد عرقية وتاريخية روسية، إلى جانب الحاجة إلى تعقب مسار العلاقات التركية- الروسية عبر القضية الكردية، وبالنظر إلى الخريطة السياسية لسوريا اليوم، فإننا نقف على مسارات غير متوقعة بسبب تعدد الأطراف السورية من معارضة وطنية، ونظام بشار وأتباعهِ، و«داعش»، و«النصرة»، إلى الأكراد في الشمال مع تعدد الأطراف الدولية والإقليمية في الثورة السورية، فهل تلك المسارات المتقاطعة ستحط وتحافظ على الخريطة السورية كما كانت، أم سترسم خريطة مقسمة بشكل فيدرالي؟